لوحظ في الفترة الأخيرة استضافة بعض المؤسسات الغزية ذات التوجه الاسلامي، المرتبطة بالتيار الحاكم، الباحث الأميركي المختص بما يسمى "الصراع الفلسطيني الإسرائيلي" نورمان فنكلستاين (Norman Finkelstein) عبر خدمة السكايب حيث يتم منحه مساحة كبيرة لإلقاء محاضرة عن أفضل الحلول "الممكنة" والأساليب النضالية التي يجب على الفلسطينيين اتباعها وصولاً للهدف المنشود ألا وهو "دولة فلسطينية مستقلة على حدود الـ ٦٧".
وكان هذا الباحث قد اكتسب شهرة بعد نشر كتابه "صناعة الهولوكوست" واستهدافه من قبل التيارات الصهيونية اليمينية في الولايات المتحدة وإسرائيل، على الرغم من كونه ولد يهودياً لأبوين نجيا من المحرقة النازية.
هذا وقد كانت منظمة كود بينك النسوية الأميركية (CODEPINK) قد قامت بتنسيق العديد من زيارات كسر الحصار المفروض على غزة بعد الحرب الهمجيّة التي قامت بها قوات الاحتلال الاسرائيلي عام ٢٠٠٩. وفي منتصف ذلك العام قامت المجموعة باصطحاب فنكلستاين كونه "مؤيداً" للقضية الفلسطينية ولكن من منظور "يساري صهيوني"، أي أنه يؤيد حل الدولتين المبني على أساس حدود ١٩٦٧، مع التغاضي عن حق عودة اللاجئين وعدم المطالبة بالمساواة الكاملة لفلسطينيي ٤٨. وقد أثمرت زيارته غزة عن كتاب بعنوان "لقد تمادينا هذه المرة في غزة"، وعن اقتراح بالتحضير لمسيرة عالمية في الذكرى السنوية الأولى للمجزرة، تضم الآلاف من المتضامنين والفلسطينيين تتوجه الى المعابر التي تفصل القطاع عن إسرائيل، وبالذات الى معبر بيت حانون. وقامت منظمة "كود بينك" بتبني الفكرة والترويج لها من خلال ارسال رسائل لحركات التضامن الدولية ومؤسسات المجتمع المدني التي قامت بدورها بالاتصال ببعض الناشطين الفلسطينيين للاستشارة. وبالاطلاع على النسخة الأولى من النداء الذي صيغ على يد فنكلستاين كان رأي النشطاء الذين تمت استشارتهم بصفتهم الشخصية، أن مبدأ كسر الحصار من خلال إرسال وفود تضامنية الى القطاع الصامد، الذي كان يضمد جراحه بعد فقدانه أكثر من ١٤٠٠ شهيد وتدمير بنيته التحتية، لا يمكن الاختلاف عليه. ولكنه، وبسبب التضحيات الهائلة والتراكمات النضالية يجب ألا يأتي بمعزل عن أشكال المقاومة المدنية الأخرى، وفي مقدمتها المقاطعة وعدم الاستثمار وفرض عقوبات على إسرائيل. كما أنه يجب، حسب رأي النشطاء، التنويه في النداء الى أن ثلثي سكان القطاع المُحاصر والمُدمّر هم لاجئون كفلت لهم الشرعية الدولية حق العودة والتعويض تبعاً لقرار الأمم المتحدة ١٩٤.
وتكمن النقطة الخلافية الجوهرية بين ما اقترحه النشطاء الفلسطينيون والنسخة الأولى من نداء مسيرة غزة نحو الحرية الذي صيغ على يد نورمان فنكلستاين في أساس تعريف القضية الفلسطينية، وليس في توابعها، في أنجع الطرق النضالية للوصول الى حل عادل يأخذ في الأساس معاناة المضطهَد (بفتح الهاء) المحاصر، والمستعمَر (بفتح الميم). فمن وجهة نظر فنكلستاين تكمن المشكلة في احتلال اسرائيل للضفة الغربية وقطاع غزة، أي ٢٢٪ من أرض فلسطين التاريخية، وبناء عليه فإن الحديث عن حق عودة اللاجئين والمساواة الكاملة هو طرح "طوباوي" اقصائي! مبني على "إيديولوجية ستالينية"! كما ان أفضل أدوات النضال تكمن في الاعتماد على تفسيره للقانون الدولي الذي، حسب فنكلستاين، يؤكد أن احتلال إسرائيل للضفة والقطاع غير قانوني. أما التطرق لجريمة التطهير العرقي التي ارتكبت عام ٤٨ واعتبارها أساس المشكلة، والتمييز العنصري المُمارس ضد فلسطينيي ٤٨ نتيجة لذلك هو طرح "غير واقعي"، ويزيد المشكلة تعقيداً! وبالتالي فإن حصار غزة هو نتاج الاحتلال الذي بدأ عام ١٩٦٧، وأي محاولة لفك هذا الحصار يجب أن تأتي من خلال فصل "مشكلة" غزة عن كل ما نتج عن عملية التطهير العرقي المخطط له بدقة بالغة قبل عام ١٩٤٨، وباتباع اساليب غاندية، لا عنفية، من دون التطرق بأي شكل من الأشكال للدعوة لمقاطعة إسرائيل، وعدم الاستثمار منها، وفرض عقوبات عليها التي يأخذ فنكلستاين موقفاً معادياً بشكل فج يثير الكثير من علامات الاستفهام!
وفي المقابل كان رأي النشطاء الفلسطينيين، الذين تمت استشارتهم، أن اي مجهود دولي متضامن مع الشعب الفلسطيني ويهدف لإنهاء الحصار المفروض على قطاع غزة يجب أن ينطلق من سياق النضالات الفلسطينية المتعددة والمتراكمة منذ عام ٤٨، والأخذ بعين الاعتبار أن القطاع قد تحول من بانتوستان (معزل عرقي) ومعسكر لاجئين كبير الى أكبر سجن مفتوح على سطح الكرة الأرضية نظراً لاحتوائه على أكبر عدد من اللاجئين. وأصرّ النشطاء على أن المقاومة الشعبية المتجذرة في التاريخ الفلسطيني، والمفتوحة على نضالات الشعوب الأخرى، تُعد رافداً هاماً، بل أساسياً، في دعم وسائل كسر الحصار، براً أو بحراً، وأن أهم أسلوب نضالي مدني في المرحلة الحالية يكمن في الدعوة والعمل على مقاطعة إسرائيل على نمط ما حصل ضد نظام التفرقة العنصرية في جنوب أفريقيا. وبالتالي فإن نداء مسيرة غزة نحو الحرية يجب أن يتضمن اشارة لنداء المقاطعة الفلسطيني الصادر عام ٢٠٠٥، ذلك النداء الذي يتمحور حوله إجماع فلسطيني.
من وجهة نظر فنكلستاين تكمن المشكلة في احتلال الضفة وقطاع غزة

وانسحب نورمان فنكلستاين نتيجة لتبني اللجنة التوجيهية لمسيرة غزة نحو الحرية التعديلات التي اقترحها النشطاء الفلسطينيون.
وكانت هذه التجربة درساً كبيراً لنا في غزة، بشكل خاص، من حيث انها أوضحت لنا، ولكل من عايشها، أن التضامن الدولي يجب أن يكون داعماً للنضال الفلسطيني وليس موجهاً له! وأن زمن القاء المحاضرات علينا قد ولى! والدرس الثاني يكمن في أن الشوط الكبير الذي قطعته المقاومة الشعبية الفلسطينية، وفي مقدمتها حملة المقاطعة التي تحقق انجازات ملموسة في عزل دولة اسرائيل بسبب ممارساتها من احتلال استيطان وتطهير عرقي وتفرقة عنصرية، لا يمكن التفريط به بأي شكل من الأشكال. والدرس الثالث هو أن حصار قطاع غزة، والعمل على كسره، يأتي في إطار سياقات ترجع بجذورها لعام ٤٨، مع الأخذ بعين الاعتبار التحولات الهائلة التي حصلت خلال هذه الفترة.
وأصبح واضحاً أن فنكلستاين يتبنى الموقف اليساري الصهيوني بشكل فذّ، ذلك الموقف الذي لا يعترف بحق الفلسطينيين في تقرير المصير، ذلك الحق المرتبط جدلياً بعودة اللاجئين وتعويضهم، والحرية والمساواة الكاملة. وهذا هو بالضبط ما نجحت أوسلو في تحقيقه، أي تصغير القضية الفلسطينية، بعد تجزئتها، الى حق "الاستقلال" على ٢٢٪ من أرض فلسطين الانتدابية. وهنا تكمن قوة جرثومة أوسلو، حيث تم تبني برنامج اليسار الصهيوني من قبل بعض من يدّعي تأييد الشعب الفلسطيني من خلال برنامج يطالبنا بالنضال من أجل تحقيقه باسم "الواقعية" والإجماع الدولي!
من الأمور الملاحظة في خطاب فنكلستاين عدم ثقته بقدرة الشعب الفلسطيني على خلق واقع جديد من أجل الوصول الى حقوقه الأساسية التي كفلتها الشرعية الدولية. ويتجسد ذلك بعدائه الصارخ لحملة المقاطعة الدولية ذات القيادة الفلسطينية، ورفضه المطلق لمطالبها المعروفة من حرية وعودة ومساواة. ففي أكثر من مؤتمر ومقابلة قام باتهام الحملة الفلسطينية التي تتمتع بإجماع غير مسبوق منذ انطلاقتها، بأنها نوع من "العبادة" المتصلبة، وأن من يقودها مجموعة صغيرة من منظمات "الأنجزة" في رام الله، أنها تهدف للقضاء على إسرائيل بطريقة "ذكية". وكان قد أوضح نفس الأفكار المليئة بالمغالطات من خلال مقابلة أجراها معه الناشط الألماني فرانك بارات (Frank Barat) ولكنها تميزت بهجوم يغازل أفكار اليسار الصهيوني من حيث رفض حق العودة ومناقشة أي فكرة تتعلق باقامة دولة ديمقراطية لكل سكانها. وكانت هذه المقابلة قد كشفت توجهاته الصهيونية بشكل واضح، وهذا بدوره جعل الغالبية الساحقة من لجان التضامن الدولية تمتنع عن توجيه أي دعوات له، كما أن النشطاء الفلسطينيين الفاعلين على الساحة الدولية من خلال حملات البي دي أس (BDS) وغيرها، والقوى اليهودية المعادية للصهيونية، قد أوضحوا أن موقفه في المحصلة النهائية يصب في صالح إسرائيل. ومن الملاحظ أن التيارات الصهيونية المعادية لحملات المقاطعة وللتضامن الأممي مع الشعب الفلسطيني كانت قد روجت فيديو اللقاء المذكور الذي أجراه فرانك بارات. وفي حدود علمي، ومن خلال حوار شخصي مع بارات، فإن فنكلستاين كان قد حاول سحب ذلك اللقاء من الانترنت!
وفي آخر محاضرة ألقاها عبر سكايب بدعوة من مركز فلسطيني (إسلامي) في غزة حضرها بعض ممثلي الفصائل والقليل من الكتاب، طالب الفلسطينيين بالتخلي أيضاً عن الكفاح المسلح و"طالب بإقامة منظمة فلسطينية جديدة تتبنى المقاومة السلمية" متجاهلاً اللجنة الوطنية للمقاطعة التي تضم في عضويتها الغالبية الساحقة من قطاعات المجتمع المدني والقوى السياسية الفاعلة، ومتجاهلاً كل الإنجازات التي حققتها هذه الحملة بشهادة إسرئيل التي اعتبرتها "خطراً وجودياً" عليها.
ما يثير التحفظات في هذا السياق هو أنه في الوقت الذي تم كشف وجه هذا المدّعي من قبل حملات التضامن الدولي ولجان البي دي أس، تقوم بعض المؤسسات الفلسطينية ذات التوجه الاسلامي بمنحه مساحة كافية للترويج لأفكار اليسار الصهيوني (مع إيماني بعدم وجود يسار في الصهيونية) دون إبداء أي تحد. والحقيقة أنه لدي الكثير من الشكوك إن كان من يدعوه ومن يحضر لقاءات كهذه على دراية كافية بكتاباته ومواقفه الأخيرة.
إن أي مظهر من مظاهر التضامن مع الشعب الفلسطيني يكون من خلال الاستجابه لنداء المقاطعة الصادر عام ٢٠٠٥، فهو نداء المضطهَد المستعمَر الى المجتمع الدولي أن يمد يد العون كما فعل في نهايات القرن المنصرم تضامناً مع الشعب الجنوب أفريقي. إن أي شكل من أشكال التضامن من دون تبني نداء البي دي أس عبارة عن فرقعة في الهواء بلا أي معنى. ونورمان فنكلستاين ينتمي لفصيلة سياسية أميركية تدّعي التقدمية المبدئية في كل قضايا الأرض، إلا في ما يتعلق بالقضية الفلسطينية فهو يطالبنا "بالواقعية" واحترام القانون الدولي، وكأن القانون الدولي لا يعترف بحقوقنا الأساسية وعلى رأسها الحق في تقرير المصير!
ما يثير القلق في هذا السياق هو الجانب الفلسطيني الذي يروّج لفنكلستاين إما تعبيراً عن عقدة نقص مستأصلة لدى بعض التوجهات السياسية التي تستجدي الاعتراف من "الآخر" الأبيض، أو جهلاً بما يتعلق بالساحة الدولية المؤيدة مبدئياً للقضية الفلسطينية. إن أي شخص لا يؤيد الحقوق الأساسية للشعب الفلسطيني، من حرية وعودة ومساواة، وحقه في تقرير المصير غير القابل للتصرف، غير مرحب به لا في غزة ولا رام الله، ولا حتى سخنين!


* مستشار سياساتي في شبكة السياسات الفلسطينية "الشبكة"، وأستاذ مشارك في جامعة الأقصى -غزة