إسكندر منصور*
تحتلّ السياسة الخارجيّة مكانة مهمة في برامج مرشّحي الرئاسة في الولايات المتحدة الأميركيّة. فخلال الحرب الباردة كان الرئيس عادة يحتكر إدارة السياسة الخارجيّة و يجعلها من مهماته غير القابلة للنقاش من الكونغرس الذي كان ولا يزال يعمل جاهداً لمشاركة الرئيس في رسم وإدارة هذه السياسة. وبعد أحداث الحادي عشر من أيلول 2001 أصبح مركز الرئاسة في أوج هيبته وقوّته نتيجة المهمّات الملقاة على عاتق الرئيس في إدارة حربي أفغانستان والعراق بالإضافة إلى ما يُعرف بالحرب الدائمة المستمرة على الإرهاب في مناطق كثيرة من العالم. في ظلّ هذا المناخ، تحتلّ الانتخابات الرئاسيّة المقبلة أهميّة خاصة لكون جميع الملفات والخيارات مفتوحة، إن كان في العراق وأفغانستان، أو في ما يتعلق بالخيارات العسكريّة تجاه إيران ومناطق أخرى ساخنة، بالإضافة إلى كون بعض المرشّحين لا يمثّلون فقط نهج جورج بوش السياسي الكارِثي، بل نهجاً أكثر تطرّفاً وتصعيداً.
يُعدّ رودي جولياني أحد المرشّحين الرئيسيّين للرئاسة في الولايات المتحدة، والأول بين المرشّحين الجمهوريّين الذين يجهدون لاكتساب ثقة الناخبين الجمهوريين في الانتخابات الأوليّة على أمل أن يكون مرشّح الحزب الجمهوري في الانتخابات الرئاسيّة.
كتب المرشّح جولياني مقالة في مجلة «فورين افّيرز» في عدد أيلول/تشرين الأوّل 2007، والتي تُعنى بشؤؤن السياسة الخارجية لعرض رؤيته لسياسة بلاده الخارجيّة في حال فوزه بمنصب الرئاسة. لقد مثّل نقده للسياسة الخارجيّة ولمفهوم ما يعرف بـ «مردود السلام» في مرحلة ما بعد الحرب الباردة نقطة خلاف مع بعض منظّري تلك المرحلة من الجمهوريّين الذين يرون أن الولايات المتحدة ربحت الحرب الباردة وأنها تعيش فترة ما «مردود السلام» رغم وجود تحديات حقيقيّة للهيمنة الأميركيّة «الكاملة». فجولياني الذي يعتمد على مستشاري مؤسّسة «أيباك» التي تُعدّ أهم لوبي إسرائيلي في البلاد من ناحية رسم سياستها الخارجيّة، يرى أنّ الولايات المتحدة في مرحلة ما بعد الحرب الباردة، لا تستطيع أن تقطف مردود السلام أو تعيش نتائج انتهاء الحرب الباردة. فبنظره، إنّ الذين يعتقدون ذلك يعيشون خارج «الواقعيّة الحقيقيّة». فالحرب على الإرهاب لا تزال في بدايتها وعلى جيل الحادي عشر من أيلول أن يتابع هذه المهمة حتى النهاية. فجولياني لا يتكلّم على السلام ببعده المثالي بل عن «السلام الواقعي» الذي يتطلب تحققه «توازناً في الرؤيا والممارسة ما بين الواقعيّة والمثاليّة في السياسة الخارجيّة» على حد قوله.
فالردّ الأميركي الضعيف من جانب الإدارات السابقة ديموقراطيّة كانت أم جمهوريّة على ضرب مركز التجارة العالمي عام 1993 وضرب السفارة الأميركيّة في كل من كينيا وتانزانيا سنة 1998 وضرب السفينة الحربيّة ي.س.س كول في سنة 2000 في اليمن، والانسحاب من كل من لبنان سنة 1983 والصومال سنة 1993، مثّل عاملاً استفاد منه «الإسلام الفاشي» ليتابع نشاطاته الإرهابيّة التي أدت إلى أحداث الحادي عشر من أيلول 2001.
من هو فريق جولياني الذي يرسم له السياسة الخارجيّة؟ لأن جولياني ليس صاحب خبرة وتجربة في السياسة الخارجيّة، فهو لم يخدم في أي إدارة ولم يتبوأ أي منصب له علاقة بالسياسة الخارجيّة، فرصيده يقوم على كونه بدأ حياته السياسيّة مدعياً عاماً فدرالياً، وكان رئيساً لبلدية نيويورك خلال أحداث الحادي عشر من أيلول، بالاضافة إلى مواقفه المتطرفة، لا فقط في تأييده المفرط والأعمى لإسرائيل بل كذلك نحو العرب والمسلمين. فعلى سبيل المثال: في عام 1995 عندما كان ياسر عرفات مدعواً إلى البيت الأبيض، تلقّى دعوة إلى حضور حفلة موسيقيّة في مدينة نيويورك، وبعد قدومه إلى نيويورك قرر جولياني عدم السماح له بالبقاء في قاعة الحضور، الأمر الذي أدى إلى مغادرة عرفات القاعة، و كان هذا في أوج «شهر العسل» بين عرفات ومؤيدي اتفاقيّة أوسلو من اليهود الأميركيين. والمرة الثانيّة كانت عندما رفض شيكاً من الأمير الوليد بن طلال الذي كان في زيارة إلى نيويورك بمبلغ 10 ملايين دولار على أثر أحداث الحادي عشر من أيلول 2001. أما موقفه من القضيّة الفلسطينيّة فيُعدّ خروجاً عن شبه الإجماع الأميركي وحتى الإسرائيلي، في إن نهاية الحل ستكون في إقامة دولة فلسطينيّة مستقلة. جولياني يرفض هذا «الإجماع» ويتبنى موقفاً «ليكودياً» متطرفاً يرفض فكرة إقامة الدولة الفلسطينيّة حتى ضمن شروط محددة. فهو يرى «أنه ليس من مصلحة الولايات المتحدة، وهي في حربها مع الإرهابيين الإسلاميين، أن تساعد في إقامة دولة أخرى تساعد الإرهاب».

شارل هيل ونورمان بودورِتز

لقد عيّن جولياني كلًّا من نورمان بودورتز وشارلز هيل ودانيال بايبس ومارتن كريمر في طاقم حملته الإنتخابيّة كمستشارين في رسم السياسة الخارجيّة. فبودورتز معروف بميوله اليمينيّة وانتمائه إلى المحافظين الجدد و إن كان قد بدأ حياته الفكريّة يسارياً، وكان واحداً من الذين وقّعوا رسالة بعد أحداث أيلول2001 يطالبون فيها بغزو العراق و الإطاحة بصدّام حسين حتى إن لم يكن هناك أي دليل على علاقته بالإرهاب عامة وخصوصاً بـ«القاعدة». فهزيمة الإرهاب العالمي بنظره تمرّ ببغداد. وقال بيتر بوير في مجلة «النيويوركر» إنّ بول ولفويتز نائب وزير الدفاع السابق وأحد مهندسي سياسة غزو العراق يعدّ لبرالياً بالنسبة إلى بودورتز. وفي مقالة نشرتها مجلة «كومنتري»، التي رأس تحريرها بين عامي 1960ـــــ 1995 ولا يزال أحد محرريها الرئيسيين، المعروفة منبراً للمحافظين الجدد والصهاينة في ربيع 2007 دعا فيها بودورتز الرئيس بوش إلى شن حرب على إيران كأقصر الطرق لمنعها من الحصول على القنبلة الذريّة. ربما استرعى المقال المنشور القائمين على حملة جولياني الإنتخابيّة، فدعوه للانضمام إلى حملته كأحد المستشارين الرئيسيين في السياسة الخارجيّة. بالإضافة إلى مقاله المذكور أصدر بودورتز كتاباً صدر أخيراً بعنوان «الحرب العالميّة الرابعة: الكفاح الطويل ضد الإسلام الفاشي»، وفيه يرى أننا (الاميركيّين) انتصرنا على النازيّة اليمينيّة والشيوعيّة اليسارية والآن جاء دور أيديولوجيّة شبيهة جديدة هي الإسلام الفاشي، ولا خيار أمام الولايات المتحدة سوى الرد العسكري على هذه الظاهرة. إنها رؤية المحافظين الجدد إلى العالم في أعقاب نهاية الحرب الباردة التي أدّت إلى غزو العراق و تدمير بنيته التحتيّة، الماديّة و البشريّة، و جعل العراق معقلاً و مُصدِّراً «للجهاديين» ليس فقط ضد أميركا بل ضد مقومات العراق وسكانه العزّل و الآمنين.
أحد أوجه النقد الذي وجهه جولياني لسياسة الرئيس بوش في العراق كان حول إمكان «نشر الديموقراطيّة» التي تبنّاها بوش على حد قول الأكثر يمينيّة ومحافظة بين المحافظين الجدد. فجورج بوش أصبح بنظر بعض النخبة مثل بودورتز وشارلز هيل ومارتن كريمر ودانيال بايبس حاملاً لواء الديموقراطيّة لنشرها في العراق والشرق الأوسط. شارلز هيل الذي عاصر إدارات عدة وتبوّأ خلالها مناصب حساسة، عمل في مكتب وزير الخارجيّة الأسبق هنري كسنجر، وعمل مساعداً تنفيذياً لوزير الخارجية الأسبق جورج شولتز في إدارة رونالد ريغن قبل أن يعمل مستشاراً خاصاً للأمين العام للأمم المتحدة. أما الآن فهو زميل في معهد هوفر الذي يؤمه المحافظون ومحاضر في الحلقة الدراسيّة للإستراتيجيّة الكبرى في جامعة يال يعتقد أن الإرهاب الإسلامي أو الإسلام الفاشي يمثّل خطراً على النظام العالمي الذي تشكل بعد «معاهدة وستفاليا» 1648. وبهذا يصبح محاربة الإسلام الفاشي عنده تعزيزاً للنظام العالمي القائم في ظل قيادة و هيمنة الولايات المتحدة التي جعلها جولياني أحد ركائز سياسته الخارجيّة.

مارتن كريمر

هو خريج جامعة برنستون في دراسات الشرق الأدنى، تتلمذ على أيدي برنارد لويس ومارس مهنة التدريس الجامعي في جامعة تل أبيب لمدة 25 سنة، كذلك ترأس مركز موشي دايان لدراسات الشرق الاوسط وإفريقيا لمدة ست سنوات، انضمّ لطاقم جولياني وأصبح أحد مستشاريه لشؤون الشرق الأوسط. يمينية كريمر تختلف وتفترق عن يمينيّة جورج بوش و المحافظين الجدد الذين بنظره يعملون ويؤمنون بإمكان نشر الديموقراطيّة في العراق ولبنان و الأراضي الفلسطينيّة المحتلة. فبنظر كريمر، شعار نشر الديموقراطيّة على حساب الاستقرار كما هو معمول به في سياسة بوش الشرق أوسطيّة أدى إلى وصول «حماس» إلى السلطة في الأراضي الفلسطينيّة وسوف يؤدي أيضاً إلى وصول أحزاب إسلاميّة أخرى إلى السلطة في ظل أي انتخابات ديمقراطيّة تحصل في المستقبل. طبعاً جورج بوش في نظر جولياني ومستشاريه للشرق الأوسط لم يفهم العرب جيداً كما أنه لم يفهم الإسلام السياسي ببعده العنفي و نزعته الفاشيّة. فبالنسبة لكريمر «الشرق الأوسط بنظر بوش غير الشرق الأوسط بنظر جولياني»، وهذا ما دفعه ليكون جزءاً من حملة جولياني الانتخابيّة مستشاراً لشؤون الشرق الأوسط. بعد الحادي عشر من أيلول 2001 نشر كريمر «أبراج عاجيّة فوق الرمال: فشل دراسات الشرق الأوسط في أميركا». مضمون هذا الكتاب كان نقداً لدارسي ومدرّسي الشرق الأوسط في المعاهد الأميركيّة على قاعدة تجاهلهم لخطر صعود الإسلام السياسي وإمكان تحوله إلى حالة إرهابيّة مثلما حصل في الحادي عشر من أيلول. يُرجِع كريمر هذا التوجُّه وعدم إمكان قراءة الإسلام السياسي وصعوده إلى كتاب «الإستشراق» ومؤلفه إدوارد سعيد الأستاذ الراحل في الأدب المقارن في جامعة كولومبيا وتأثيره في الأوساط الأكاديميّة الأميركيّة والذي أدّى بنظر كريمر وأستاذه برنارد لويس إلى حجب سكونيّة المجتمعات العربيّة والإسلامية و نفورها الدائم من الحداثة.

دانيال بايبس

انضم دانيل بايبس إلى قائمة مستشاري جولياني للشؤون الخارجيّة. فهو مؤسّس «كامبس وتش»، وهي منظمة مهمّتها الحصريّة مراقبة مضمون محاضرات الأساتذة في الجامعات و نشاطاتهم، بالإضافة إلى مراقبة الطلاب ونشاطاتهم، وخصوصاً طلاب الدراسات العليا في جميع الحقول التي تهتم بالشرق الأوسط. لم تكتف هذه المنظمة بالمراقبة ومحاولة الحد من النشاطات الأكاديميّة العربيّة بحجّة أنّها وجه أكاديمي للإرهاب، بل ذهبت إلى العمل الدؤوب على منع الأساتذة الجامعيين الجدد والخارجين عن بعض مدارس الاستشراق من الترقية التي تمنحهم فرصة ليكونوا في ملاك الجامعة. لقد قال الأستاذ السابق لدراسات الشرق الأوسط في جامعة ستانفورد والمدير الحالي لمركز دراسات الشرق الأوسط في الجامعة الأميركيّة في القاهرة جوال بنين، إن مهمة «كامبس وتش» بالإضافة إلى جمع المعلومات عن الأساتذة المناهضين للسياسة الإسرائيليّة هي «أسرلة الخطاب السياسي الأميركي فيما يختص بالشرق الأوسط والموقف من القضيّة الفلسطينيّة». يُعدّ دانيال بايبس من أخطر المناهضين للفلسطينيين والعرب والمسلمين في الولايات المتحدة. ففي مقالة نشرت في «كومنتري» دعا إسرائيل إلى محو أي منطقة فلسطينية يطلق منها النار، كما اتّهم المسلمين الأميركيين بأنهم يعملون «على تطبيق الشريعة الإسلاميّة في أميركا».
بالإضافة إلى رعايته لـ«كامبس وتش»، عيّن الرئيس بوش دانيال بايبس في مجلس إدارة «معهد الولايات المتحدة للسلام» وهي منظمة ممولة من الحكومة الفدراليّة هدفها المعلن «المساهمة في حل النزاعات العالمية بالطرق السلميّة»، وهذا ما لا ينطبق على بايبس الذي واجه معارضة لكونه من صقور المحافظين الجدد والذي قال مراراً إن السبيل الوحيد لحل «ما يُعرف» بالمسألة الفلسطينيّة هو نصر إسرائيلي ساحق على الفلسطينيين.
لقد نالت «آيباك» حصة الأسد في حملة جولياني الانتخابيّة. فغالبية أنصارها حلّوا مستشارين في السياسة الخارجيّة، كأن ليس هناك سوى الشرق الأوسط في العالم. فعلى حد تعبير أغسطس ريتشارد نورتن، أستاذ العلوم السياسية في جامعة بوسطن الذي كتب الكثير عن الشرق الأوسط وعن حزب الله، «إن مستشاري جولياني جميعهم من أنصار إسرائيل» وهناك غياب كلي لمستشارين «متخصّصين في أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينيّة و أوروبا».
* كاتب لبناني مقيم في الولايات المتحدة الأميركيّة