عصام نعمان *
ثمة فصلٌ تامّ بين السلطات في الولايات المتحدة. فلا الرئيس يتعاطى التشريع، ولا الكونغرس يتعاطى التنفيذ. لكن عندما يضعف الرئيس أو يفشل في أدائه، يشاطره الكونغرس مقاليد الحكم، أي يمارس السلطة التنفيذية بصورة غير مباشرة ومحدودة، فيتأتى عن ذلك كله المزيد من التأزم والاضطراب وأحياناً الفشل.
جـورج بوش ضعف كثيراً في ولايته الثانية نتيجةَ إخفاقه في أدائه السياسي، ولا سيما في العراق، ما حَمَل الكونغرس على مشاطرته السلطة التنفيذية مرات عدّة.
في هذا الإطار اتّخذ الكونغرس بمجلسيه قرارات وتوصيات ذات طابع تنفيذي تتناول لبنان وسوريا والعراق وغيرها من الدول. آخر التوصيات اتخذتها لجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب تتعلق بإدانة إبادة الأرمن في عهد السلطنة العثمانية، وهي توصية ستُرفع عاجلاً أو آجلاً إلى مجلسي النواب والشيوخ للتصويت عليها واعتمادها كقرار.
صحيح أنّ قراراً كهذا ليس ملزماً للإدارة، وقد بذل بوش ومعاونوه جهوداً ملحوظة للحؤول دون اعتماده، إلاّ ان تركيا فسرته بأنه إساءة بالغة لسمعتها ومصالحها، إذ قد يؤدي إلى مطالبتها في المستقبل بتعويضات مالية لورثة ضحايا المجازر المدانة.
فوق ذلك، لاحظت حكومة رجب طيب أردوغان أن إدارة بوش تمارس سياسة تمييز وتفرقة في العراق أدت وتؤدي إلى تسليط الأكراد على التركمان، وإلى تشجيع الأكراد على تجاوز الحكم الذاتي الذي يتمتعون به الى الاستقلال بدولة منفصلة عن العراق، قد تُشّكل نواة دولةٍ كبرى تجمع الأقليات الكردية في تركيا وإيران وسوريا.
زاد الطين بلّة أنّ مقاتلين من حزب العمال الكردستاني التركي اتخذوا لأنفسهم، برضى حكومة إقليم كردستان العراق، قواعد خلفية في شمال بلاد الرافدين ينطلقون منها إلى مقاتلة قوى الأمن في منطقة ديار بكر التركية المجاورة، ما ألحق بها في الآونة الأخيرة خسائر لافتة.
إزاء احتجاجات تركيا المتكرّرة على أنشطة حزب العمال الكردستاني التركي العابرة للحدود، اضطرت حكومة بغداد إلى توقيع اتفاق أمني مع حكومة أنقرة يولي الأخيرة حق مطاردة مقاتلي الحزب المذكور داخل المناطق الحدودية العراقية. بذلك اعترفت حكومة بغداد ضمناً بأن المقاتلين الأكراد من الجنسية التركية اتخذوا من مناطق كردستان العراق ملاذاً للاعتداء على قوى الأمن التركية عبر الحدود الطويلة بين البلدين. وعليه، قرّرت حكومة أردوغان، بعد الاستحصال على إجازة من البرلمان، مهاجمة المقاتلين الأكراد ومطاردتهم حتى لو اضطرها الأمر إلى دخول شمال العراق لكسر شوكتهم.
قرار حكومة أردوغان الإسلامية، المدعومة من الجيش التركي «العلماني»، أثار إدارة بوش واضطرها إلى ممارسة ضغوط شديدة على أنقرة لإلغاء قرارها الحربي، ذلك أن كردستان العراق منطقة هادئة نسبياً، ومن شأن دخول الجيش التركي إليها تجديد العمليات العسكرية والاضطرابات الأمنية فيها. أكثر من ذلك، فإن معارضة إدارة بوش سياسة حكومة أردوغان التدخلية وما يمكن أن ينجم منها من اضطرابات في شمال العراق، قد تؤدي إلى تعطيل التسهيلات اللوجستية الضخمة التي توفرها قاعدة إنجرليك الأميركية في تركيا لقوات الاحتلال في العراق. كل ذلك يزيد من تعثّر سياسة إدارة بوش ويُضعفها أمام العراقيين الثائرين على الاحتلال وأمام أعضاء مجلسي الكونغرس الأميركي المعارضين لها.
الأهم من ذلك كله، أن سياسة إدارة بوش غير المتوازنة والمحابية لأكراد العراق قد تكون شكّلت دعوةً غير مباشرة لتركيا للدخول بقواتها ومشاطرتها إدارة المشهد العراقي. وغني عن البيان أن لتركيا في العراق أغراضاً ومصالح متمايزة عن الأغراض والمصالح الأميركية. النتيجة؟ المزيد من التعثر لإدارة بوش وانعكاسه سلباً على مستقبل نفوذ أميركا في المنطقة. كيف؟ لعل أول تجليات ذلك سيكون في لبنان الغارق في أزمة سياسية مستفحلة عنوانها انتخاب رئيس جديد للجمهورية، ذلك أن تمادي إدارة بوش في تأييد «قوى 14 آذار» الحاكمة التي يدعو بعض أركانها المتطرفين إلى تجريد المقاومة من سلاحها وتطبيع العلاقات مع إسرائيل، سيؤدي إلى انفجار شعبي قد يستتبع «دعوة» سوريا، مرةً أخرى، إلى التدخل للمشاركة في إخماده أو يبرّر لها تدخلها لحماية أمنها القومي من مفاعيله السلبية. ففي منتصف السبعينيات من القرن الماضي، ردّت القوى السياسية اللبنانية الموالية للغرب على تضخّم الوجود الفلسطيني في لبنان ومباشرة منظماته عمليات فدائية عبر الحدود ضد إسرائيل، برفع شعار التقسيم لإقامة كانتونات طائفية متمايزة، ما أدّى إلى تدخّل سوريا تفادياً لقيام جمهوريات موز هزيلة تدور في فلك الكيان الصهيوني. اليوم يعيد التاريخ نفسه، أو تعيد التنظيمات السياسية اللبنانية المعادية للمقاومة (حزب الله) تمثيل الدور نفسه تقريباً، بالمطالبة بتجريد المقاومة من السلاح تحت طائلة اللجوء الى التقسيم لإقامة كانتونات مذهبية متمايزة.
إذا تطوّر الوضع على هذا النحو، فإن أميركا ستجد نفسها مضطرةً إما إلى الاستمرار في دعم «قوى 14 آذار» وصولاً، على الأرجح، إلى تقسيم البلاد، وإما إلى محاولة تفادي الانفجار الناجم من التقسيم وردود الفعل العربية والإسلامية المناهضة له بـ«دعوة» سوريا إلى التدخل، سياسياً وعسكرياً، من أجل التهدئة واستعادة الأمن والنظام، وإما إلى السكوت عن تدخّلها بدعوى اتضاح حقها في حماية أمنها القومي من مفاعيل التقسيم السلبية.
مهما كانت نتائج تدخل تركيا في العراق أو تدخل سوريا في لبنان، فإن أميركا تتحمل القسط الأكبر من المسؤولية السياسية والجنائية في هذا المجال. وليس من الغلو القول إن قوى المقاومة العربية والإسلامية في كل مكان مسؤولة أيضاً عن تدفيع أميركا أثمان بل جزاءات أفعالها الإجرامية ضد وحدة الشعوب العربية وحريتها ومصالحها وكرامتها.
* وزير لبناني سابق