strong>ماجد الشيخ *
منذ فوز نيكولا ساركوزي في الانتخابات الرئاسية الفرنسيّة، لم يترك مناسبة إلا وأكّد فيها نهج المغايرة بين سياسته والسياسة الديغولية التي عاشت فرنسا في كنفها ردحاً طويلاً من الزمن، حتى إنّ وزير خارجيته بيرنار كوشنير في العديد من محطاته السياسية والدبلوماسية، غالباً ما لجأ إلى المغايرة نفسها، إلى حد تبديل مواقفه بين ماضيه الاشتراكي وحاضره اليميني، ما يعني أن القطيعة مع الماضي بالنسبة إلى فرنسا الساركوزية تشكل اليوم هوس السلطة الجديدة، ولكن من دون أن يرقى ذلك إلى الاعتراف بالماضي الكولونيالي لفرنسا الاستعمارية التي يريد البعض تمجيد ماضيها ذاك، هرباً من الاعتراف بارتكابات تلك الإدارات بحق الشعوب التي خضعت لاستعمارها.
وفي محطّة جولته المغاربية في الجزائر بعد فوزه مباشرة، أعاد الرئيس الفرنسي تأكيد موقف الإدارات الفرنسية من الجرائم والارتكابات التي مارستها إدارات الحرب الاستعمارية ضدّ الشعب الجزائري، في الإقرار بما حدث ولكن من دون الاعتراف بالمسؤولية وما يترتّب عليها. وفي لقاءاته وتصريحاته الصحافية، أصرّ ساركوزي على القول «انسوا التاريخ والثورة والجرائم وتعالوا نتحدّث في الأمور التي تهمّ بلدينا في الوقت الحاضر كأمور النفط والغاز والبزنس».
أما في محطّته الإفريقية في تموز الماضي فقد أغضب الرئيس الفرنسي الأفارقة حين قال «إن الأفارقة لا تاريخ لهم»، وذلك في خطبة ألقاها في العاصمة السنغالية داكار، ذكر فيها «أن مأساة إفريقيا تكمن في أن الرجل الإفريقي لم يدخل كلياً إلى التاريخ، والأفارقة لم يقحموا أنفسهم حقيقة في المستقبل»!. ودفع هذا الكلام المؤرخة أدام با كوناري وهي زوجة الرئيس المالي السابق والأمين العام للاتحاد الإفريقي ألفا عمر كوناري إلى حضّ الأكاديميّين الأفارقة إلى كتابة تاريخ القارة، ليكون ذلك بمثابة ردّ على الرئيس الفرنسي. وقالت با كوناري إن تلك التأكيدات الساركوزية مبنية على كليشيهات وعلى نظريات «أوكليدية» حول إفريقيا وعلى تصور استعماري، وهي تقول «إن إفريقيا لا تاريخ لها» ودعت نظراءها من المؤرخين الى «المساهمة عبر مقالات في كتاب عن تاريخ إفريقيا سيصدر في العام المقبل (2008) وسيُقدّم إلى ساركوزي والى السلطات الفرنسية ليعطيهم درجة من المعرفة حول القارة».
وشهد عام 1964 إصدار فرنسا قانوناً قضى بأن «الجرائم ضدّ الانسانية لا ينطبق عليها مبدأ التقادم»، ما حدا الدولة الفرنسية يومها إلى اعتبار الجرائم التي ارتكبها أتراك السلطنة العثمانية ضدّ أبناء الشعب الأرمني متماثلة مع هذا القانون، بل ذهبت إلى تجريم إنكار الإبادة. فهل ينسجم هذا الموقف مع موقفها الذي ينحو منحى التغاضي عن جرائم استعمارها للجزائر، بحجّة التقادم أو بذرائع أخرى، فيما لم يصفح أو يتسامح الشعب الجزائري مع ارتكابات الجيش الفرنسي في بلاد استعمرها أكثر من قرن، أليس هذا من نوع الفصام الكولونيالي وإهانة لذكرى الضحايا الذين سقطوا؟
وإذا كانت جنوب إفريقيا قد تجاوزت قطوعها التاريخي بالتخلص من أعباء ماضيها الاضطهادي التمييزي العنصري ضد أبناء البلاد الأصليّين، أفليس أجدر بفرنسا عصر الأنوار أن تتخلص من أعباء ذاك الماضي الاستيطاني الكولونيالي للجزائر، حتى تكون منسجمة على الأقل مع ذاتها، وهي تصدر قانونها لتجريم إنكار إبادة الأرمن على أيدي الأتراك العثمانيين؟
وعلى رغم سحب فرنسا قانون شباط 2005 الذي يتحدث عن «الدور الإيجابي للاستعمار»، إلا أنّ الجزائريين لا يزالون يصرون على مطلب الاعتذار، مجددين القول إنهم «لن يقعوا في شباك صداقة تتغذى من لحم البشر»، في وقت أعاد فيه تصويت الجمعية الوطنية أخيراً على قانون يجرّم إنكار إبادة الأرمن على أيدي الأتراك، ملف جرائم الاستعمار الفرنسي في الجزائر إلى الواجهة، إذ كيف لفرنسا أن تطالب تركيا بمسؤوليتها عن مجازر ضدّ الأرمن ومحاكمة روجيه غارودي على موقفه من المحرقة النازية، فيما ترفض المطلب الجزائري بالاعتذار رسمياً عن ماضيها الاستعماري في الجزائر؟ ما دعا قادة الأحزاب السياسية وبعض الشخصيات التاريخية الجزائرية لاستهجان هذا التناقض بين تمسك باريس بضرورة اعتراف تركيا بإبادة الأرمن، ورفضها الاعتراف بالجرائم التي ارتكبتها في الجزائر طوال الحقبة الاستعمارية التي امتدّت إلى أكثر من 130 عاماً، حين بدأ المستعمر الفرنسي يرفع شعار أن تكون الجزائر لاتينية وتنصير وفرنسة الجزائر في استهداف لهويّتها، فهل يمكن كتابة المستقبل على لوحة ماضٍ يغور عميقاً لكنّه لا يزال ناتئاً في الحاضر؟
على رغم أن العلاقات الفرنسية ــــــ الجزائرية شهدت ولا تزال صعوداً وهبوطاً، إلا إن انتكاسة هذه العلاقات بلغت ذروتها حين شنّ الرئيس عبد العزيز بوتفليقة هجومه الحاد على قانون 23 شباط 2005، وكانت تلك هي المرة الأولى التي تتخذ فيها الجزائر موقفاً رسمياً يقوم على مطالبة فرنسا بالاعتذار للشعب الجزائري عمّا ارتكبته في حقّه من جرائم، بينما استاءت باريس من استعمال بوتفليقة لمصطلح «الإبادة» لوصف مجازر الثامن من أيار 1945 التي اعترف أحد وزراء خارجية فرنسا (ميشال بارنييه) بأنها كانت «خطأ غير مبرّر».
ويمثّل مطلب الاعتذار الجزائري، أحد الشروط التي وضعها الرئيس بوتفليقة، لتوقيع معاهدة صداقة مع فرنسا، كان من المزمع التوصل إليها قبل نهاية عام 2005، إلا أنها تأجلت بعدما أقر النواب الفرنسيون «قانون تمجيد الاستعمار»، فيما جدّدت جمعيات وأحزاب جزائرية مطالبة باريس بتقديم اعتذار واضح للشعب الجزائري العام الماضي مع حلول الذكرى الخامسة والأربعين لمجزرة 17 تشرين الأول 1961 التي قتل فيها أكثر من 200 جزائري على أيدي رجال الشرطة الفرنسيين تحت قيادة موريس بابون.
وفيما ردّت الخارجية الفرنسية على المطلب الجزائري، بالقول إنّ التطرّق إلى الماضي مسألة تعود إلى المؤرّخين والباحثين، رأى عبد الحميد مهري وهو من أبرز وجوه النضال الجزائري ضدّ الاستعمار، أن ما أقدم عليه البرلمان الفرنسي أخيراً بالنسبة إلى الأرمن، إضافة إلى قانونه الذي مجّد فيه الاستعمار، هو «محاولة للسطو على التاريخ الذي هو من مهمات المؤرخين»، ورأى أنّ «الحنين إلى الاستعمار تيار قوي في فرنسا، وزواله غير متعلق بصعود اليمين أو اليسار إلى سدة الحكم، وهذا التيار له تأثيره في العلاقات بين فرنسا ومستعمراتها القديمة ومنها الجزائر».
ولهذا لا يمكن إقامة علاقات في الحاضر يمكنها أن تمتدّ إلى المستقبل من دون الاعتراف بأخطاء الماضي الكولونيالي وارتكاباته، والاعتذار عن هذا الماضي حتى يمكن تجاوزه. أمّا أن يجري التذرع بترك التاريخ للمؤرخين أو السطو على دورهم، فهو ما لا يرقى إلى مستوى الاعتراف أو طلب الصفح أو التسامح مع مسائل تاريخية، سجّلها التاريخ كأحد ارتكابات القوى الكولونيالية، ويرفض الضحايا الصفح عنها أو التسامح إزاءها، ما لم يُقَدَّم الاعتذار عنها والتعويض المناسب، أو أي شكل من أشكال التسوية المتفاهم عليها بين الطرفين المعنيين.
إنّ دعم حرية المؤرّخين يجب أن يعني، بل يحتّم وقبل كل شيء، ضرورة الاعتراف بنتائج أبحاثهم، وخصوصاً حين تكون جدية وموضوعية وأكثر موثوقية من عهود ومواثيق السياسيين التي تتعارض أحياناً والحقائق التاريخية في نظرتهم إلى التاريخ. والتاريخ الدامي للكولونيالية الفرنسية في الجزائر لا يزال طرياً نوعاً ما، ولم تستطع طبقات الغبار التي تكاثفت على أرشيفه ووقائعه أن تغيّب حقائقه الدامية والدامغة، فكيف لفرنسا الأنوار أن تطمس جزءاً من تاريخها، فيما هي تطالب الأتراك بالإضاءة والكشف والاعتراف بحوادث الإبادة ضدّ الأرمن التي راح ضحيّتها أتراك وأكراد، ولم تقتصر على الأرمن فقط، تماماً كما هي عليه الحال بالنسبة إلى المحرقة النازية التي راح ضحيتها «أغيار» عديدون من غير اليهود ومن قوميات وطوائف عدة.
إن المطالبة بالكشف عن تاريخ مجازر الإبادة بحق الأرمن في تركيا، وتجريم من ينكرها، ينبغي أن تصدر من طرف قام بمثل هذا الكشف عن تاريخه، معترفاً بمذابح واضطهادات الاستعمار الكولونيالي الذي مثّلته الإدارات الكولونيالية التي تعاقبت على حكم فرنسا طوال سني احتلالها للجزائر، حتى يكون للموقف الفرنسي الحالي من تجريم الإنكار صدقيته الأخلاقية على الأقل، وحتى لا يكون عرضة لاحتسابه في إطار دوافع المصلحة أو المصالح الآنية لكسب الأصوات الأرمنية في الانتخابات العامة الفرنسية، أو لاحتسابه مع الأصوات التي تعارض دخول تركيا «جنّة» الاتحاد الأوروبي، وذلك على خلفية إرثها الديني على الرغم من علمانية دولتها.
من هنا فإن المطالبة بنبش الحقبة العثمانية وإرثها الثقيل وارتكابات سلاطينها وخلفائها بحق شعوبنا ومجتمعاتنا، وبحق الشعب الأرمني، وبحق شعوب أوروبا التي دخلت بلدانها جيوش الانكشارية العثمانية، تحتّم أيضاً وفي المقابل نبش التاريخ الكولونيالي لفرنسا في الجزائر، وفي غيرها من بلدان أُخضعت للاستعمار أو الاستيطان الكولونيالي، وكان لهذا التاريخ ضحاياه الذين لا يزالون ينتظرون الإنصاف وبعض العدالة النسبية لرد الاعتبار لهم، حتى يكون للصفح والتسامح معانيه ومدلولاته العملية، ولاستئناف مسيرة الصداقة والتعاون بين بشر الزمن الحاضر، تخلّصاً من أعباء ماضٍ أطفأ أنواره ومضى إلى غير ما رجعة.
* كاتب فلسطيني