أرنست خوري
لهذه الأسباب تخلّف العرب وتقدّم الغرب


لقد اختار المفكّر والسياسي العربي عزمي بشارة في كتابه الجديد أن يجادل البناء الفكري الغربي الذي عالج «المسألة الشرقيّة» (كما أطلق عليها هذا الغرب المستشرق) من الزاوية التي غالباً ما تلجأ إليها دوائر صنع الرأي العام في عواصم القرار فيه، لتقديم «نظريّة» في أسباب «تخلّف» هذا العالم العربي عن ركب الديموقراطيّة.
برز، منذ زمن، أنّ الهمّ الأساسي الذي يؤرق بشارة كان هذه النقطة بالتحديد: هل حقّاً هناك استثنائيّة إسلاميّة تعوق التحوّل نحو الديموقراطيّة؟ لماذا تقدّم الغرب وتراجع الشرق؟ ما هو دور «النخبة» العربية في إنتاج مشروع ديموقراطي وفرضه أجندةً عمليةً تفتح الباب لهذا التحوّل من دون أن تكون حصان طروادة للمشروع الأميركي (اليوم) أو الاستعماري الكلاسيكي (في الأمس القريب منه والبعيد)؟ هل هناك فعلاً ما يمكن تسميته «نظريّة» تفسّّر الإخفاق الديموقراطي ووصفة جاهزة لترياق ديموقراطي في هذا العالم العربي الغارق في حكم الاقتصاد الريعي والسيطرة القبلية والطائفية، حيث يُصَوَّر للمواطن العربي أنه مخيّر بين مصيرين يمكن اختصارهما بمعادلة الثنائية الشيطانية: الأنظمة الاستبدادية ما قبل الحداثية من جهة، أو التدخّل الخارجي الذي يعد بأحلام الديموقراطية الآتية من على ظهور الدبابات. ثمّ ما هو دور القوميات والإثنيات والهويّة والثقافة ومعوّقات التنمية في ضعف مشروعية الدولة العالقة بين مستويي الإطار ما دون الدولتي (عشائر، قبائل، طوائف...)، وما فوق الدولتي (الأمّة والقومية)؟ هل حقّاً هناك تناقض بين الإسلام ديناً وثقافةً لا انتماءً قومياً من جهة، والديموقراطية وقيم المواطنة من جهة ثانية؟ هل فعلاً الإطار القومي العربي هو مقبرة الديموقراطيّة كما يحبّ غلاة المحافظين الجدد اليوم أن يفعلوا، وكما أحبّ مستشرقو الزمن الغابر أن يصوّروا؟
لا بدّ لقارئ هذه السطور من أن يتنبّه إلى أنّ بشارة في طرحه لهذه الإشكاليات، يحاول مناقشة جميع العوامل التي أعاقت ولا تزال التحوّل الديموقراطي دفعةً واحدة في عدد من الصفحات لا تزيد على 250، في حين أنّ كلّ بند من هذه البنود ـــــ الملفات بحاجة إلى مجلّدات بأكملها قد تُوَفَّق وتصيب في الإجابة عن البعض من التساؤلات. قد لا يجد القارئ مبرّراً لهذه «المشكلة» العلميّة (كثافة المواضيع ـــــ المعضلات المطروحة) سوى أنه ينتظر أن ينشر بشارة قريباً كتاباً، أراده في الأصل جزءاً من هذه الوثيقة التي وضعها «مركز دراسات الوحد العربية» بين أيدينا، وهو سيكون تحت عنوان «التحوّل الديموقراطي، الدين وأنماط التديّن». وإذا عطفنا هذا المؤلّف على ذلك الذي تعهّد الكاتب أن ينشره قريباً وعلى سلسلة مؤلّفاته السابقة (المجتمع المدني، العرب في إسرائيل، الانتفاضة والمجتمع الإسرائيلي، ما بعد الاجتياح... ناهيك عن الدراسات والمقالات الصحافية منها والأكاديميّة)، يصبح لدى القارئ العربي مجموعة من الكتابات القيّمة التي من شأنها وضع بعض الأدوات النظرية أمامه لفهم هذه الخريطة الفسيفسائية التي يعيش تفاصيلها والتي تُدعى «المسألة العربية» كحركة قوميّة فريدة في التاريخ من حيث إنها لم تُعطَ الفرصة لإنجاز طروحاتها بدءاً بحق تقرير المصير كحركة تحرّر وطنية.
لعلّ أكثر ما يميّز هذا الكتاب، هو أنّ مؤلّفه اجتهد لكي يثبت أنه لا وجود لنظريّة من شأنها تفسير أو مساعدة التحوّل الديموقراطي في العالم العربي. وهكذا يصبح الكتاب مجموعة من «اللاءات» توزّعت على فصوله العشرة.
لا يوجد «استثنائية إسلاميّة» في مسألة الديموقراطية (وهو ما وعد بتشريحه في كتابه المقبل)، بل هناك استثنائية عربية عامة تحول دون حصول التحوّل الديموقراطي وهي التي يُعَبَّر عنها بالعشائرية والاقتصاد الريعي والثقافة بمفهومها الأوسع...
قد تكون الآثار التي تركتها المدرسة الفلسفية الألمانية المعروفة بصرامتها العلمية وبتعقيداتها المصطلحيّة حتّى، من بين أبرز سمات هذا الكتاب. فلم يأتِ سهلاً ممتنعاً يخاطب القارئ صاحب الثقافة المتوسّطة، بل شابه بعض التعقيد والغوص في مماحكات تنتمي إلى الفلسفة السياسية، كما حصل في الفصل الأول حين دخل بشارة في نقاش عميق ليس بسهل للتمييز بين النظام الديموقراطي وتأسيس الديموقراطيّة التي نشأت أولاً في التاريخ من ناحية، وإعادة إنتاج النظام الديموقراطي من ناحية أخرى، ليلامس في جداله فلسفة هيغل الذي يميّز بين «جدليّة الجوهر» مقابل «جدلية الوجود». ولا تظهر الفكرة على بساطتها إلا عندما يدخل الكاتب في ذكر الأمثلة، ليستنتج ببراعة أنّ إعادة إنتاج النظام الديموقراطي ليست بحاجة بالضرورة إلى ديموقراطيّين، بينما بناء الديموقراطية في عالمنا العربي (أو في المسألة العربية كمسألة مفتوحة) بحاجة إلى ديموقراطيّين بالضرورة.
قيمة مضافة يكتسبها الكتاب، وهي أنه وليد فترة ملاحقة الدولة الإسرائيلية للنائب في الكنيست عزمي بشارة، وهو ما دفعه إلى حالة منفى قصري بعدما حوّله العقل الصهيوني إلى مطلوب للعدالة في دولة ديموقراطيتها تقتصر على شعب قيلَ إنه مُختار. غير أنّ عاملاً آخر يُضاف إلى جملة ميّزات المؤلَّف، هو أنه يواكب أحداثاً مفصليّة لا شكّ أنها أغنت الملاحظات الواردة فيه، من التحوّلات الكبيرة التي طرأت على المشروع الأميركي في المنطقة عموماً والعراق خصوصاً، والعدوان الإسرائيلي على لبنان صيف 2006، والتغيير الاستراتيجي الذي طرأ على السياسة الخارجية الأميركية من سياسة «نشر الديموقراطية» ثمّ العودة إلى الـ real politics، أي الواقعية السياسية بدل الإيديولوجيا، والتحالف مع الأنظمة القمعية من دون السعي إلى تغييرها.
على العموم، قد تكون الخسارة التي مُني بها المواطن العربي من جرّاء نجاح المؤسّسة الصهيونية الحاكمة في فلسطين المحتلّة في التخلّص (حتّى إشعار آخر) من «كابوس» عزمي بشارة الذي لطالما لاحقها بلسانه السليط وجرأته الزائدة على اللزوم (بالنسبة إلى إسرائيل طبعاً)، يعادلها ربح لا تقلّ أهميته النظرية عن تلك العملية التي خسرناها، وهو أن عزمي بشارة بات شبه متفرّغاً للكتابة والبحث العلمي. إنّ الملاحظة الأخيرة التي أوردناها لا تتّفق مع خلاصة رئيسية تنبّه لها بشارة، وهي أنّ المطلوب اليوم هو العمل الديموقراطي لا التنظير، طرح البرامج والتعبئة الجماهيرية لا وضع الأطر العامّة والأنساق المقارَنة... هو زمن رحلة البحث عن الديموقراطيّين ليبنوا ديموقراطية قبل أن تصبح قادرة في ما بعد على إعادة إنتاج نفسها عبر عمليّة آليّة، من هنا نفهم لماذا أرفق عنوانه الرئيسي بآخر فرعي هو «مقدّمة لبيان ديموقراطي عربي».
* من أسرة الأخبار



العنوان الأصلي
في المسألة العربية
الكاتب:
عزمي بشارة
الناشر
مركز دراسات الوحدة العربية