دينا حشمت *
في اليوم نفسه الذي كانت مصر تحتفل فيه بمرور أربعة وثلاثين عاماً على نصر السادس من تشرين الأوّل 1973، كانت خمس سفن حربية تعبر قناة السويس، كي تقوم ببعض «المناورات الحربيّة» في البحر الأبيض المتوسّط، بعدما انتهت من مناوراتها في البحر الأحمر. وهذه السفن هي المدمّرة الهولندية إفيرتسن Evertsen، والمدمّرة الأميركية بيانبريدج Bainbridge، والمدمّرة الدانمركية فيشر Olfert Fischer والمدمّرة الألمانية سبيسارت Spessart والمدمّرة الكندية تورونتو Toronto. معظم هذه المدمّرات قدّمت خدماتها في حربي الخليج: الأولى والثانية، على غرار Olfert Fischer التي شاركت في حرب الخليج عام 1991 وفي الحرب على العراق عام 2003.
وعندما تعبر إحدى هذه السفن قناة السويس يتم إغلاق جميع المناطق المجاورة بالكامل، بحيث لا يتمكّن المواطنون من المرور أمام القناة، مثلما حدث العام الماضي أثناء حضورنا فعاليات مهرجان الإسماعيلية للفيلم التسجيلي، حيث تمّ منع الانتقال من «القرية الأولمبية» التي تقع مباشرة على ضفاف القناة إلى قصر الثقافة في وسط المدينة، لأن ذلك كان يستدعي المرور أمام القناة مباشرة أثناء عبور سفينة حربية أميركية. فلا بدّ من حماية هذا الأسطول الحربي سيّئ السمعة من غضب المواطنين المصريّين، ومن أعمال «إرهابية» محتملة؛ والدولة المصرية، بجيشها وشرطتها وجميع أجهزتها الأمنية، هي التي تقوم بهذه المهمّة.
ليس من الغريب إذاً أنّ ما تستدعيه قناة السويس في أذهان الكثير من المصريّين، وخصوصاً بالنسبة للشباب، لا يرتبط بالضرورة بـ«انتصارات أكتوبر المجيدة»، بل بالصور المخزية للسفن الأميركية وهي تعبر القناة في طريقها إلى ضرب العراق، أو إيران أو سوريا مستقبلاً. فما آلت إليه قناة السويس حالياً، بعدما كانت رمزاً للاستقلال الوطني عندما أمّم جمال عبد الناصر إدارتها سنة 1956، وبعدما ساعدت الجيش المصري في فرض المفاجأة على الدفاع الإسرائيلي سنة 1973، ما آلت إليه القناة حالياً، ودورها المحوري في خطط الإمبريالية الأميركية، قد يفسّر تلك «الروح السلبية» التي اشتكى منها بعض رؤساء تحرير الصحف القومية في الأسابيع الماضية في مقالات تنتقد كل من «يشكّك» في انتصار أكتوبر. ولن يُفيد كثيراً، للتغلّب على ما يطلقون عليه «الروح السلبية»، أن يُصدر وزير التربية والتعليم «تعليماته بأن تكون الحصّة الأولى في جميع مدارس الجمهورية (يوم الخميس 4 تشرين) عن انتصارات السادس من أكتوبر المجيدة وأن تكون الكلمة الرئيسية في طابور الصباح عن الإنجازات والعبر والدروس المستفادة من هذا النصر العظيم».
لن يفيد هذا في التغلّب على «الروح السلبية» و«التشكّك» في «إنجازات أكتوبر»، لأن الدولة المصرية هي نفسها التي «تشكّك» في معنى الانتصار، وهي نفسها التي تلعب بذاكرة الشهداء. فلم ينس الجيل الذي لم ير من «انتصارات أكتوبر المجيدة» غير الخطب الرنّانة والحفلات العسكرية، لم ينس هذا الجيل أن الأناشيد التي بثّها التلفزيون المصري لدعم القوات المصرية التي كانت تحارب جنباً إلى جنب مع القوات الأميركية أثناء حرب الخليج سنة 1991، هي الأغاني نفسها التي كانت تبثّ لدعم الجيش المصري في حربه ضد القوات الصهيونية سنة 1973.
فلا غرابة إذاً في أن الجيل الجديد، وغيره من الأجيال، «يشكّك» في «انتصارات أكتوبر المجيدة»، أو بمعنى آخر، في أنه لم يعد يصدّق العناوين التي تُصدرها الصحف القومية في مثل هذه المناسبات، ولم يعد يصدّق أن «نصر أكتوبر هو الذي فتح الطريق أمام تحقيق السلام بالمنطقة»، كما نشرت جريدة الأهرام يوم 5 تشرين الأول الماضي.
ولماذا يصدّق هذا الكلام الذي يتبرّع به حكّام يقال عنهم إنهم سمحوا بإقامة قواعد عسكرية أميركية على أراض مصرية، وإن كانوا ينكرون وجودها؟ ولماذا يصدّق كلام هؤلاء الحكّام أنفسهم الذين يقومون بفتح قناة السويس لعبور السفن الحربية للحلف الأطلسي، ولا يتورّعون عن إرسال جيوشهم إلى جانب الجيوش الأميركية لفرض «السلام» في المنطقة؟
وهم الحكّام أنفسهم الذين يوقّعون على تلك الاتفاقيات التي تسمّى «اتفاقيات سلام» والتي ليست إلا اتفاقيات تكرّس هيمنة الولايات المتحدة وإسرائيل على المنطقة، على غرار البروتوكولات التجارية التي تصاحب عمليات تصدير الغاز والإسمنت المصري إلى إسرائيل للمساهمة في بناء الجدار العازل، وفي تموين الدبّابات الإسرائيلية، أو على غرار البروتوكولات الأخرى التي تكرّس تداخل الاقتصاد المصري والإسرائيلي، مثل «الكويز» (اتفاقية المناطق الصناعية المؤهلة)، التي تسمح بدخول الصادرات المصرية في مجال النسيج السوق الأميركية شرط أن تتضمن مكوّناً إسرائيلياً بنسبة 10،5في المئة. لكن لا خوف على مصر من كل هذه الاتفاقيات، كما قال وزير التجارة والصناعة رشيد محمد رشيد، أثناء المؤتمر الصحافي الذي عقده أخيراً في القاهرة ـ مع نظيره الإسرائيلي ـ للإعلان عن خفض هذه النسبة، التي كانت تصل إلى 11،7في المئة. حيث أكّد أن «المصانع المصرية المشتركة ليست اختراقاً للأمن القومي». فليطمئن الشعب إذاً؛ جميع هذه اللقاءات والاتفاقيات تندرج تحت بند «السلام»، كما يندرج تحت المسمّى نفسه أيضاً المؤتمر الذي سينعقد في واشنطن في تشرين الثاني المقبل، الذي وافقت مصر على المشاركة فيه، بعد أن رفضت سوريا وحتى السعودية.
فليطمئن الشعب إذاً؛ ليس هناك أي أسباب للخوف لمن يعيش في «واحة للاستقرار»، ولا صحّة لتحذيرات العديد من التقارير الاقتصادية حول «المجاعة» التي تهدّد الريف المصري بسبب اختيارات الحكّام أنفسهم الذين ربطوا المستقبل الغذائي لبلد تجاوز تعداده الثمانين مليون نسمة باستيراد القمح الأميركي.
فليطمئن الشعب، وليخرس هؤلاء الذين «يشكّكون» في نصر أوكتوبر؛ فلماذا يشكّكون، ولماذا يقلقون، طالما أن الحكّام أنفسهم ما زالوا جالسين على كراسي الحكم، وما زالوا حريصين كل الحرص على استمرارية «روح أوكتوبر» في تحديد الخيارات الاستراتيجية للبلاد؟ لماذا يقلقون، ما دام هناك من يحرص على أن تظل البلاد حبيسة «السلام»، ذلك الذي فتح طريقه نصر أوكتوبر، ذلك «السلام» الذي جعل مصر بلداً مستعمَراً استعماراً خفياً. فإذا كان هذا هو «السلام»، فلا غرابة في أنّ هناك من يمتنع عن التهليل مع المهلّلين والتصفيق مع المصفّقين.
* صحافية مصرية