فاروق حجّي مصطفى *
أثار قرار مجلس الشيوخ الأميركي الخاص بالإبادة الأرمنيّة حفيظة الأتراك مجدّداًَ، لكنّ الغريب أنّ الرئيس جورج بوش وقف إلى جانب الأتراك هذه المرّة تماماً مثلما فعل إزاء قرار الكونغرس الخاص بتقسيم العراق إلى ثلاثة أقاليم ذات استقلال ذاتي موسّع يحكمها نظام فدرالي سلس. والحقّ أنّه من غير المعروف تماماً سبب رفض بوش لهذين القرارين رغم أنّ مواقف البيت الأبيض وسياساته توجب قبول مثل هذه القرارات، فهو (أي الرئيس بوش) فعل ذلك ليخفّف شيئاً من «الامتعاضات» التركية. ويبدو أنّ الولايات المتحدة الأميركية لا تزال تحتاج إلى أنقرة وتريد أن تكون إلى جانبها في ملفّاتها المتراكمة في الشرق الأوسط وفي ترشيح عضويتها في الحلف الأطلسي. في كل الأحوال، إنّ القضيّتين الأرمنية والكردية وكذلك القضايا الأخرى، ستشغل بال الأتراك والأميركيّين كثيراً، ومثل هذه القضايا ستكون محلّ استقطابات في سياسات البلدين وفي دائرة علاقتهما العتيدة. ومنذ فترة ليست قصيرة، تتحكّم في العلاقة التركية ـــــ الأرمنية قوانين «الحيف» والثأر والانتقام، لكن ليس بمستوى مطالبة قرار الكونغرس الأميركي والبرلمانات الأوروبية والغربية بمعاقبة تركيا سياسيّاً باستمرار، وهو ما تعبّر عنه حالياً المساعي الرامية إلى تصنيف حرب الإبادة الجماعية بحق الأرمن الذي أقرّته فرنسا العام الماضي والكونغرس منذ أسبوعين.
قد لا يشكّ أحد في أن تركيا ارتكبت الإبادة بحق الأرمن بين عامي 1915 و1923، وبحقّ الأكراد والعرب والسريان. ولعلّ غالبية الوثائق الدولية وأرشيفات الصحف في ذلك الوقت تبقى شاهداً على ذلك. لكن الغريب في الأمر هو أنّ تركيا تريد دائماً أن تتملّص من ذلك رغم مرور قرن من الزمن تقريباً عليه، إذ إنّ المجزرة التي راح ضحيّتها مليون ونصف أرمني أخذت معها أجيالاً رحلت ودُفنت مع مآسيها، والسؤال الذي يطرح نفسه الآن: «أليس من الأجدى لتركيا أن تبادر بنفسها إلى فتح صفحة جديدة من العلاقات مع الأرمن وتعوّضهم ما خسروه في تلك المذابح؟».
يدرك المتابع أنه كلّما اقتربت ذكرى تلك المجزرة التي ارتُكبت بحقّ الأرمن تستنفر السياسة الخارجية التركية وتحمّل اللوم إلى الكثير من الأطراف من حليفاتها في الدول الأوروبية. المجزرة التي ارتكبتها تركيا كانت بالفعل إبادة جماعية ولولاها لما كان الأرمن موزّعين في الشتات بهذا الحجم في سوريا (حلب)، وبيروت، والقدس (حي الأرمن) وفي كردستان العراق وإيران والأردن وغيرها من الدول العربية. قد يكون هذا الانتشار من بين بعض الصور الحقيقية لنتائج سياسة الإبادة الجماعية للأرمن.
والعجيب أنه على الرغم من تقلبات السياسة في تركيا والتعديل الذي حصل في سياساتها الموجّهة لمخاطبة الأوروبيّين، فإنها لا تزال تستنفر عندما يبادر أحد إلى التعاطف مع الأرمن وإدانة المجزرة التي ارتُكبَت بحقّهم، وهم الذين يُعرف عن سماتهم بأنّهم ودودون وهادئون.
من المفترض أن تعترف تركيا اليوم بأنها ارتكبت بالفعل إبادة جماعية بحق الأرمن والأكراد والعرب والسريان، حيث الهروب من الاعتراف بهذه الجرائم لا ينقلها إلى برّ الأمان، والجهود الحثيثة من البرلمانات الأوروبية لانتزاع هذا الاعتراف مع ملحقاته ليس تربّصاً بتركيا بقدر ما هو حالة سياسية مدنية سادت وطغت على الخطاب السياسي المتحضّر في نهاية القرن العشرين وبدايات القرن الجاري، وهي بالتالي لا تمثّل عقبة أمام انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي بل قد تساعدها على ذلك.
لا تزال حال الأرمن الذين يقولون إن عددهم يُقدَّر بنحو ثمانية ملايين نسمة والذين أخذوا موقفاً محايداً من الحرب الأهلية اللبنانية (باستثناء المواقف الحالية حيث تشوب مواقفهم ضبابية وسياسات غير واضحة)، وموقفاً متضامناً مع الأكراد، بل لهم أفضال كثيرة على الأكراد جسّدها الوعي الأرمني الحديث بالتضامن الإنساني مع كل الشعوب التي كانت ضحية العقل العثماني والعنصري التركي. ورغم وجود دولة صغيرة لهم في أرمينيا، فإنها دولة لا تقصّر في تقديم خدماتها لهم وتفتح بابها لكل الأرمن الذين ينتشرون في سائر بقاع العالم، الأمر الذي يجعلهم بحقّ في مصاف الشعوب التي وعت باكراً معاني التضامن الإنساني بين شعوب المنطقة.
معروف عن الأرمن أنهم شعب حيادي تجاه الأحداث السياسية التي تعصف بالدول المضيفة في المنطقة على الرغم من أنهم انخرطوا في الحياة السياسية في كثير من الأماكن من مواقع أسبقية وعيهم السياسي الاجتماعي ومعاناتهم الملموسة بعد المذابح التي أصابتهم. فهم كانوا من المؤسّسين الرئيسيّين لبعض الأحزاب وخصوصاً الشيوعية، ولهم وضع خاص في لبنان (حيث يُمثَّلون بعدد من النواب في البرلمان) وأحزاب خاصة بهم تنسجم مع السياسة اللبنانية. وإلى جانب كل هذا لهم جمعيات ونوادٍ شبابية ومدارس خاصة. وفي سوريا يُقدَّر عدد الجمعيات بأكثر من ستّ ولهم أحزابهم أيضاً.
لقد سطّرت أحداث المذبحة الأرمنية سطوراً حزينة في خيالات كل أبناء الشعب الأرمني، وكانت دائماً عنواناً لعلاقاتهم مع النسيج العام، فقد أدّوا دوماً أدواراً إيجابية في تطوير العلاقات الاجتماعية والتقريب بين جميع الأطراف المتعايشة حرصاً على الاستقرار والسلم، وضمانة لدور اقتصادي قاموا به باستمرار في تطوير الزراعة والصناعة والتجارة في كل البلدان التي حلّوا فيها ضيوفاً محبوبين، لتصبح فيما بعد جزءاً من مشروعاتهم الحياتية ويصبحوا أبناء لها.
بقي القول إنّ الأرمن يحتاجون إلى تضامن الشعوب مع قضاياهم والضغط على تركيا للاعتراف بجريمتها وتقديم التعويضات المادية والمعنوية للأرمن الذين شُرِّدوا في سائر بقاع العالم بسبب المجازر التي ارتُكبت بحقّهم.
* كاتب سوري