نسيم ضاهر *
يروي شيخ الصحافة المصريّة محمد حسنين هيكل كيف كان الرئيس أنور السادات يختلي بنفسه قبل اتخاذ القرارات المصيرية. آنذاك، كانت الرواية الرسمية تزيّن الأمر على أنّ حامل عبء السلطة في حاجة إلى السكينة والخلود إلى مناخ الفلاح المصري لجوجلة أفكاره بين فطور ريفي بلدي ونزهة صباحية وجدانيّة تهيّئ لجلسة تأمّل على شرفة ملاذه الطوعي.
يتساءل هيكل عن داعي هذه الدروشة، قياساً بعهد عبد الناصر حيث كانت جلبة اللقاءات والاتصالات تسبق إعداد القرارات الكبرى، وكانت الخلايا تعمل على أشدّها تقصّياً للمعلومات ومواكبةً للإشارات القادمة من عواصم القرار. ويخلص إلى أنّ اختلاف الشخصيّتين وأسلوبهما في إدارة دفّة الحكم من أعلى الهرم، قاصر عن تفسير ظاهرة فريدة تختزل البحث بالمناجاة الرؤيويّة، وتستبعد طواقم المعاونين والعارفين بالشؤون العامّة ومحترفي أجهزة الدولة، من المشاركة وحساب الاحتمالات.
تنهض سلامة الأحكام على الشورى، ذلك هو أساس المجالس المصغَّرة التي أحاطت بالملوك على مرّ العصور، إلى أن تكوّنت معالم الحكومات وأُنيط بها قسط من السلطة التنفيذية أو كاملها تبعاً لمروحة الأنظمة.
نادراً ما سُجِّلَ قفز للمستشارين في الأروقة فوق الحكّام ومصادرتهم السلطة من أصحابها، فدرجت العادة على إحاطة صنّاع القرار بما سُمِّي خزّاناً فكرياً يقترح وينسب ويفنّد في الظل. يصحّ ذلك ويعزَّز بالشواهد لدى كل الأنظمة، الديموقراطية منها والشمولية وحتى الفردية في غالب الأحيان. إن مساوئ الاستغناء عن المستشارين ظاهرة في الحال الساداتية، وتعبِّر عن نزعة إغفال الدراسة وقياس الأمور اعتباطياً، مستبدلةً الاستدلال بالإلهام والوحي من مدرسة غيبيّة موصوفة. ولكن الأفدح منها، هو الاستعارة من غير ذي صفة ومؤهّلات، وإجلاسه في الخفاء باباً أسود يفتي بما لا يجيزه الدستور والقوانين، ويستخدم لقهر الأصول وتطويع الأنظمة. هنا تنفصم الوسيلة عن الغاية، وتنقلب الآية، على وجه يتيح تجاوز المؤسّسات والانفراد بالتفسير والالتفاف على الصلاحيات العائدة للمشرِّع، صاحب العهدة الشرعية في الرقابة وإبرام الصيغ النافذة للقوانين. أقرَّ اتفاق الطائف حزمة إصلاحات دستورية قلّصت صلاحيات رئاسة الجمهورية السابقة، ونصّ على إيلاء السلطة الإجرائية إلى مجلس الوزراء مجتمعاً وفق آلية نظامية على قاعدة التصويت الأكثري عموماً، ونصاب الثلثين في حالات محدّدة ومعدَّدة حصراً. جاء ذلك حسماً لنزاع مديد وتتويجاً لمصالحة رائدها إحلال السلم الأهلي وعطبها المحاصصة الطائفية والمذهبية. قُدِّرَ لهذه التشكيلة الهجينة، التي أفردت لرئيس الجمهورية ترؤّس الجلسات حين يحضر، الإيفاء باستقامة الحكم، فتبدّى سريعاً، عقب زوال تحكيم الوصاية السورية وإملاءات مقيمها، ضعف تماسكها ومدى الثغرات و«الألغام» التي تعترض سبيلها. لكنّ الحاصل بُعَيْدَ استقالة الطرف الشيعي من الحكومة أخيراً، ومغادرته مقاعدها إلى تصريف انتقائي للأعمال، هو ترتيب مفاجئ جعل من رئيس الجمهورية المنقطع عن مجلس الوزراء المقاطَع من الغالبية النيابيّة والمتجنّب من كتلتين معارضتيْن، قيّماً على مصائر الجمهورية ومن مقامه محجّاً للراسبين في الانتخابات، فيما استمر المجلس النيابي مغلَق الأبواب أمام نوّاب الأمّة.
بذلك انتقل القاضي الأول من رمز لوحدة الدولة وحكم بين السلطات، إلى خصم عنيد لشريحة واسعة من المواطنين وقائد ظاهر للمانعين.
قد يُبتلع، في السياسة، ترفيع دور رئيس الجمهورية والاتّكاء على صلاحياته المقيّدة في إصدار المراسيم وتعيين الوزراء. بيْدَ أنّ درعه الواقي يفترض حيادية مفقودة، وحكمة مطلوبة، وشفافية غائبة. ولا يضير مؤيّدي أدائه، التنبّه إلى مخاطر العودة إلى مناقشة حقل اختصاص الرئاسة في اتجاه التوسيع والنيل من الطائف، بذريعة الدفاع عن الموقع وإعادة الاعتبار لجليسه، متناسين أن هذه الدعوة حمّالة أوجه، وسيف ذو حدّين على الأقل، إن شُهر ظرفيّاً. وانتهازاً لضراوة الرئيس الحالي في الدفاع عن امتلاك حزب الله السلاح، واحتضان مراد دمشق ومراميها، من جسيم الخطأ الإيغال في هذه اللعبة على سبيل توظيف سدّة الرئاسة في صراع داخلي مكشوف، وإقحام البلد في تأويلات دستورية تعطي ما لا حق به، وتنزع نظيره عن حامله بموجب نصّ دستوري هو حصيلة تسوية تاريخيّة لم يجفّ حبر وثيقتها بعد. إن استمالة المسيحيّين ودغدغة مشاعرهم على نسق نوستالجي وصولي، ليس بأسلوب صائب، ولن يكون مردوده إلا إيقاظاً للغرائز وشحناً للفتنة في ما بينهم، وزرع بذور الريبة بين الشركاء في الوطن، ناهيك عن صعوبة التكهّن بعدم ارتداده على أصحابه يوماً، وعودة الجميع إلى نقطة البداية.
تعبر السياسة على أشلاء التحالفات، وتنزلق في لحظات الكباش الحاد إلى ما يُوصف فرنسياً بـ«إشعال النار من كلّ حطب»، أي استخدام كل الوسائل للإيقاع بالخصوم والنيل من رصيدهم. سوى أنّ احتدام الأزمات الموصلة إلى هذه السلوكيّات سرعان ما تخمد حرائقه عند مفصل الاستحقاقات، اشتراكاً في الاقتراع وارتضاءاً بالنتائج. عندنا افتُتن الحطّابون ببستان رئاسة الجمهورية، وشاركهم وكيل الأزمة، غير آبه بالمحاصيل اللاحقة والغلال الضائعة على المدى البعيد، إذ هو شريك مضارب آثر غنائم اليوم على حصاد الغد. لم يعر أحد اهتماماً لواقع القحط واليباس جرّاء سوء الاعتناء والإهمال، بل تستّر الجميع على التصحّر النازل بالمكان.
ينقل خِلَّان رئيس الجمهورية عنه، بعد كل زيارة للقصر، أنه تحسَّبَ لجميع الاحتمالات وأعدّ العدّة، قبل مغادرته، لمواجهة التطوّرات في حال فشل السياسيّين في التوصّل إلى قاسم وفاقي يخلفه في منصب الرئاسة. ويرشح عن بعبدا أنّ الرئيس المنتهية ولايته بعد تمديد، باتَ يملك أكثر من خيار في جعبته، بناءً على مراجع دستورية موثوقة.
إلاّ أنّ دوائر القصر الجمهوري تتكتّم على الموعود ومُعدِّيه، ولا يعرف من خزّانها الفكري سوى نفر من المُروِّجين الإعلاميّين وسدَنة البروتوكول. أما «العقول» المدبّرة فتلبس طاقية التخفي إذا ما وُجدت، ويصعب لحظها بين روّاد القصر الجمهوري.
إن القول بالحلول الرديفة والخطط الجاهزة مع التعتيم على مضمونها ومآلها، يجافي المنطق الديموقراطي وينعى الشفافية علانية. المرجّح في ما يخصّ التوليفة الرئاسية أو الطبخة المجهولة، أنها وليدة احتجاب نزيل القصر عن المسرح، ما عدا إطلالاته اليتيمة الصامتة غالباً، في معزل عن خبراء العلم الدستوري وأساطين القضاء المعروفين. وما مقاطعة مجلس الوزراء وإنكار شرعية الحكومة أو الإقرار بوجودها، إلا ذلك الغلاف للعمل من وراء الستار، واستنساب مخارج وصيغ مسوّغها بطريركي قيصري، كمن يعطي إجازة لذاته ويبني عليها من دون صفة، تفويضاً لإقامة الحجّة على الشيء أو عدمه. استُطلع جمهور اختيرت عيّناته من مشارق المعمورة ومغاربها عن عظماء القرن العشرين الذين طبعوا العالم بإنجازاتهم، فجاء الحكماء والعلماء والمبدعون في مقدّمة الترتيب واحتلّت أسماؤهم معظم لائحة اختصرت بمئة. ويُطرح دوريّاً في بريطانيا وفرنسا السؤال عن الحاجة إلى مجلسي اللوردات والشيوخ في كلا البلدين، فيأتي الجواب بالإيجاب، لأن الديموقراطيات لا تحتمل ترف الفكاك عن حكمائها.
ولقد بيّنت الدراسات أن أسباب صعود ثم سقوط الإمبرطوريات وثيقة الصلة بحضور العقلاء أو ضموره. في لبنان ثمة رئيس قدم من المؤسّسة العسكرية وسيَّجَ الدولة بهيئات الرقابة وطواقم الشورى والمشورة، اسمه فؤاد شهاب ومضى من القصر في أوج سلطانه إلى محبسه المتواضع متأبِّطاً «الكتاب».
* كاتب لبناني