سرجون القنطار
في صبيحة الحادي عشر من أيلول عام 2001، تصطدم طائرتان ببرجي التجارة العالمية في نيويورك. طائرتا أيلول خُطفتا من قاموس الطبيعة والمنطق، وحتى من قاموس أية بوادر عقلية منطقية لمن يريد الجهاد على الطريقة الأميركية، أو لمن يريد مشاهدة «استعراضاته في عمق السماء، وآثاره في عمق الجحيم». هاتان الطائرتان ستغتصبان ابتداءً من يوم 12 أيلول حرية الشعوب التي حكمت على نفسها بالشقاء، منذ أن قررت أن تواجه العصر الأميركي بفقرها وشحّ مائها وبؤسها وجوعها وانتشار أمراضها وسجونها الداخلية ورضوخها لجزمة القهر، وكبريائها المقاوم دائماً. وبما أنّ المعادلة التي فرضها «أيلول الأميركي» صعبة للغاية، فإن حرية هذه الشعوب قد أخذت على عاتقها الاستمرار في مقاومة احتلال مفاعيل أيلول، حتى يوم تخمة الغول الأميركي من الدم... والهزيمة.
وبواقعية المقاومة العصرية، فإن هذا اليوم، وبقناعة الجميع، يبقى بعيداً جداً من الآمال الإنسانية البسيطة لمن قرّر قضاء ما بقي من حياته المدَمّرة بكل المقاييس وفي مختلف زواياها، بأقل خسائر ممكنة، أي بعدد أقل من القتلى والأسرى والمعوّقين الذين يسقطون أشلاءً من اللحم المباح هدر سخونته ورطوبته، وخصوصاً في زمن سخونة لحم الهمبرغر الذي ارتفعت حرارته قياسياً منذ أن افتتح الـ«ماكدونالدز» فرعاً له في موسكو. سيناريو طائرات 11 أيلول المخطوفة «طوعاً» وإخراجه، وهما المحبوكان بمهارة هوليوودية فائقة، أخذا على عاتقهما تنفيذ الجزء الثاني من مسلسل 11 أيلول الطويل في أفغانستان والجزء الثالث في العراق… أمّا الجزء الرابع فتقرّر مسرح تصويره وتنفيذه في لبنان، وقد حُدد لهذه الغاية 14 شباط 2005 تاريخاً حاسماً لبدء الإنتاج الأميركي الجديد.
لم ننجُ من الطائرات حتى الآن. فموضة الطائرات الانتحارية لا تزال تنهمر علينا لكنّ أبراجنا نحن ليست حجرية بل بشرية بامتياز، وغالباً ما لا تبلغ الثامنة عشر عاماً من «التشييد» ولا ترتفع أكثر من مترين عن سطح الأرض. أما الطائرات المخطوفة التي تقوم بالمهمات الانتحارية الجديدة، فهي ليست طائرات بالمعنى الكامل للكلمة، بل لها إطارات مستديرة تثبّت مسارها على الإسفلت فقط لا في الهواء. وفي معظم الأحيان، يأتي قبطانها المتمرّس بالموت، وهو سائق انتحاري لا طيّار، ليقودها بمفرده لا مع مجموعة، وذلك لتوفير الأعداد «لطائرات جديدة». أما مسرح «الأعمال الجهادية الأميركية السلفية»، فغالباً ما يكون في سوق الخضر حيث يفجّر الانتحاري نفسه في مجموعة نساء وأطفالهم، اتفق أنهم الكفار الجدد في القاموس الأميركي الجديد... هم فعلياً الأبراج التجارية العالمية الجديدة في العراق الجديد. ولكن بعيداً من «شهرة» أيلول الأميركي، هناك أيضاً أيلول فلسطيني ـــــ لبناني شهير، وهذه الشهرة على المقلب الفلسطيني، التي لم تخرج عن سياق ملحمة التراجيديا الفلسطينية المستمرة تاريخياً، تحوم بها نكهة مختلفة عن «السحر الدعائي الأميركي». ففي مثل هذه الأيام من عام 1982 دخلت مجموعة مقاتلين «أشّداء»، اتفق أنهم غاضبون قليلاً لأن «الحلم» و«الهاجس» و«المشروع» قد قضى نحبه، فمارسوا الفعل المباشر لضميرهم المهجور وعقائدهم الغرائزية ونفوسهم الوسخة، وارتكبوا مجزرة. الفلسطينيّون العزَّل داخل المخيم المحتل مع بيروت المحتلة كانوا ليقبلوا أن «ينفّسوا» عن إخوتهم اللبنانيين ويتحمّلوا مأساة «لبنان أولاً»، فقط لو أنهم استُشيروا بحضارة.
من استُشهد في أزقة صبرا وشاتيلا لم يكن مقاتلاً من «فتح» أو «الجبهة الشعبية»، بل كان من «بقايا» فلسطين في لبنان، الممنوعة أن يبقى شيء منها في لبنان… أو حتى في فلسطين. سالت الدماء بغزارة رهيبة، وبقيت الجثث مرمية، حيث كان يلعب الأطفال قبل أيام بسلام صنعوه ببراءتهم الفقيرة، تناجي برائحة عفنها الكريهة وعطر حريتها الطيبة شرف المقاومين ممّن ينظرون من تحت الرماد ويخطّطون لنثره بعيداً من نفوسهم. بعد أقل من أسبوع، يلبّي نداء الوجع كوكبة من رجال لبنانيين هم أيضاً أشداء وغاضبون. ولكن تحت سماء بيروت الصغيرة نفسها، كانت قبلتهم فقط التحرير والقتال والحرية والفداء. الكوكبة تصدّرتها رصاصة من رصاصات بيروت الأولى، وكانت على رصيف مقهى «الومبي»، لتتتالى بعدها صيحات رصاص من أضحت هويته يومها «مقاومين لبنانيين»، وبالتحديد رجال «جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية».
الجبهة وُلدت ولم تمت حتى الآن. فهدير رصاصها وصدى عبواتها لا يزالان يخرجان من بين حجارة رصيف الومبي وحصى تلّة الخياط وعشب ميدان سبق الخيل وزوايا الصنائع. بعض من رجالات الجبهة قد استشهد والبعض بقي. البعض بقي على العهد والبعض تخلّى والبعض تنكر وحتى البعض خان جبهة رأسه وجبهة رأس الوطن. لكن جبهة المقاومة الوطنية ليست فصيلاً مقاوماً أو مشروعاً مرحلياً يندثر مع رحيل من يحمله أو مع انقضاء «فترة صلاحيته»… هذه الجبهة كانت رحم المقاومة الإسلاميّة التي ختمت طريق التحرير المرحلي في 25 أيار 2000 بالنصر، ومن رحم هذه المقاومة الخصيب، يولد أمل، عسى أن يتحوّل إلى عمل، لتتقمّص روح جبهتنا في ذكراها الخامسة والعشرين في مقاومة علمانية مجتمعية شاملة تطرق روح فلسطين وضمير العراق من قلب داخلهما المشتعل.