strong>مصطفى بسيوني*
إضراب عمّال شركة مصر للغزل والنسيج في المحلّة الكبرى على امتداد ستّة أيّام بدأت في 23 أيلولالفائت، من أهمّ الأحداث التى تشهدها دولة تمرّ في مخاض سياسي عسير. فقد وقف 24 ألف عامل في تحدّ كبير للحكومة، واستطاعوا في النهاية أن ينالوا مطالبهم بعدما احتلّوا صدارة الخبر في جميع وسائل الإعلام. وامتدّت أصداء الحدث خارج مصر. وفي بلد يحكمه قانون الطوارئ، الذي يضع قيوداً صارمة على العمل السياسي والاحتجاج الاجتماعي، وفي ظلّ قانون للعمل يضع عراقيل كثيرة أمام ممارسة العمّال لحقّهم في الإضراب، يصبح إضراب عمال المحلة مؤشّراً على مدى احتقان الأوضاع الاجتماعية في مصر.
أهمّ مكسب حقّقه عمّال غزل المحلّة من الإضراب هو صرف أجر 70 يوماً تحت بند حساب الأرباح المستحقّة للعمّال. القيمة المتوسّطة لأجر 70 يوماً للعامل الواحد أقل من 500 جنيه، أي نحو 75 دولاراً، فالأرباح تُصرَف على الأجر الأساسي الذي يتراوح ما بين 130 و250 جنيهاً للعامل ـــ حسب الأقدمية. إنّ الحصول على 75 دولاراً مقابل إضراب واعتصام لمدّة ستة أيام كاملة، بات خلالها العمّال في العراء، يكشف مدى تدنّي الأوضاع الاجتماعية في مصر. عماد أمين، أحد العمّال المضربين يشرح جانباً من هذه الأوضاع فيقول: «عملي هو في غسيل الصوف، ونحن نعمل كالبهائم، ونتعرّض للأمراض والإصابات. ورغم أننا نحتكّ بمواد كيميائية، إلا أنّ الشركة لا تصرف لنا قفّازات أو وسائل وقاية. والقانون يقرّر لنا وجبة وقائية يوميّة عبارة عن كيلو لبن، كانت تصرف في الماضي ولكنّها توقّفت منذ سنوات. ويوجد عجز كبير في عدد العمّال، وهذا ما يزيد أعباء العمل على كل عامل. ورغم أني أعمل في الشركة منذ 18 سنة، إلا أن أجري هو 200 جنيه فقط». وأضاف، «لقد أضربنا عن العمل في كانون الأول الماضي، وحصلنا على وعود. ولكن المسؤولين يسوّفون في تنفيذها، ونحن هذه المرة مصرّون على تحسين أوضاعنا لأن الشركة أصبحت رابحة. ففي السابق كانوا يبرّرون أوضاعنا السيئة بخسارة الشركة، والآن لا يوجد
مبرّر».
الإضراب الأوّل الذي أشار إليه عماد حمدي كان مختلفاً عن الإضراب الذي شهدته المحلّة أخيراً. يشرح الأمر هاني عز الدين أحد عمال الشركة: «العمّال بدوا أكثر إصراراً على تحقيق مطالبهم في الإضراب الحالي، وهذا يرجع إلى الثقة بالنفس التي اكتسبوها بعد الإضراب السابق. عدد المشاركين في الاعتصام أكثر بكثير، ولم يكن أحد يتخيّل أنه يمكن تنظيم إضراب في شهر رمضان. العمّال يصطحبون أسرهم للإفطار في الشركة حتّى لا يغادروا الاعتصام. وإذا نظرنا إلى المطالب فسنجد أنها تطوّرت. ففي كانون الأول، طالب العمّال بصرف أجر شهرين أرباح. ولكن المطالب التي يرفعها العمال في الإضراب الأخير تستهدف إحراز تغييرحقيقي. فنحن نطالب بالأرباح وزيادة الحوافز وبدل الوجبة وبدل طبيعة العمل وحلّ مشكلة المواصلات. وإذا تحقّقت هذه المطالب فستنعكس على أوضاعنا إيجاباً».
إن تحوّل الشركة من الخسارة إلى الربح جاء بعدما أسقطت الدولة الديون المستحقّة عليها، التي قاربت المليار جنيه، وذلك بتخصيص نسبة من عائد خصخصة بنك الاسكندرية لدعم شركات النسيج المتعثّرة.
وبموجب ذلك، توقّفت الشركة عن دفع 115 مليون جنيه سنوياً ـــــ خدمة دين ـــــ كانت تحوّل أرباح الشركة إلى خسارة. وكان هذا من أهم نتائج إضراب كانون الأول 2006. يضيف هاني عز الدين: «أنا أعمل في الشركة منذ ست سنوات وأجري الأساسي 155 جنيهاً، وهو لا يكفي إيجار شقّة متدنية الحال». إن الأجر الأساسي الذي يتقاضاه هاني عز الدين يعني أنه يحصل على أقلّ من دولار في اليوم. وإذا أخذنا في الاعتبار نسبة الإعالة في تقرير التنمية البشرية والمحدّدة بـ 2.7 دولار للفرد، لوجدنا أن ثلاثة أضعاف هذا الأجر لن تكفي لرفع هانى وأسرته إلى خطّ الفقر المدقع، وربما ستة أضعاف هذا المبلغ ستبقيه قرب مستوى خطّ الفقر الأعلى أي دولارين للفرد في اليوم.
ورغم أن الارتفاع في أسعار كلّ شيء في غزل المحلّة يبدو سبباً مقنعاً ودافعاً قوياً للإضراب، إلا أنّ وسائل الإعلام الرسمية أصرّت على أن هناك قوى سياسية هي التي حرّضت العمال. وهو ما يردّ عليه أحمد النجار العامل بالشركة قائلاً: «حركتنا مستقلّة عن أي قوى سياسية أو حزبية، ولنا مطالب واضحة، نطالب بأجور عادلة، وأيضاً بإنهاء الفساد الذي يسود في البلد وله مكانه في الشركة. ولا يسيطر على الإضراب والاعتصام أي اتجاه سياسي، ولكن هذا لا ينفي أن العمال يتأثّرون بالمناخ العام. فالظروف التي عاشها البلد في السنوات الأخيرة وما زال، تدفع العمّال وفئات اجتماعيّة أخرى للتعبير عن نفسها. لم يرفع العمال في الإضراب والاعتصام شعاراً سياسياً ينتمي لأي تيار، ولكنها جميعاً شعارات وهتافات عبرت عن مطالب العمال. وهم لديهم قدرة التعبير عن أنفسهم ولا حاجة لوكلاء أو مرشدين».
الحاجة فريدة كما يناديها زملاؤها في العمل، تتحدّث قائلة «أنا أعمل في الشركة منذ 1984. العاملات شاركن في الاعتصام حتى منتصف الليل وأحياناً كنّ يبتن هناك. العاملة منهكة، تعمل في المنزل والشركة. لقد عمل آباؤنا فيها، وأبناؤنا يعملون فيها».
استقلال الإضراب العمّالي عن الحركات السياسية أكّده كل من سألناه في الاعتصام، وكانت منهم هناء عزّت، العاملة في الشركة والمشاركة في الاعتصام، فقالت «أعمل في الشركة منذ 15 سنة، وعملي في مصنع الملابس الجاهزة ومرتّبي الأساسي 140 جنيهاً، والشامل 240 جنيهاً، ولديّ ولد وبنت في المرحلة الإعدادية، وزوجي متوفّي منذ سبع سنوات، وكان أيضاً عاملاً في الشركة. وإيجار الشقّة التي أسكنها 250 جنيهاً. ألا يكفي ذلك لأن أشارك في الإضراب وأعتصم مع زملائي؟ أنا لا أنتمي إلى أي قوة سياسية، وكل هؤلاء العمّال لم يتحرّكوا إلا من أجل مصلحتهم. كنّا في إضراب كانون الأول وحصلنا على مطالبنا وأنهينا الإضراب، والنقابة لا تقف معنا وتقف مع الإدارة التي زوّرت الانتخابات وجاءت برجالها إلى النقابة».
موقف النقابة في شركة غزل المحلّة لم يكن مفاجئاً. فقد وقفت ضد الإضراب الماضي، وبشكل عام، فإن التنظيم النقابي في مصر لا يدعم الإضرابات العمالية، وعادة ما يتّخذ موقفاً منحازاً إلى جانب الحكومة، ويدافع عن قرارات الدولة. وفي الإضراب الأخير حاول رئيس النقابة التدخّل لدى العمال لإنهاء إضرابهم من دون الاستجابة إلى مطالبهم. العمّال هاجموا رئيس النقابة وكادوا يفتكون به لو لم يهرب.
كذلك، فإنّ النقابة العامّة للعاملين في قطاع النسيج واتحاد العمّال العام أخذا موقف المتفرّج منذ إعلان العمال نيّتهم في الإضراب قبل موعده بعشرة أيام. وحينما بدأوا الإضراب في موعده، لم يبادر التنظيم النقابي إلى إقامة أي اتصال مع المضربين وأعلن مسؤولون عدم مشروعيّته وعدم أحقيّة العمال بالمطالب. والتصريحات الأكثر حدّة جاءت من رئيس اتحاد العمّال، عندما توالت رسائل التضامن مع الإضراب من تنظيمات نقابية دولية وإقليمية، مثل اتحاد العمّال العرب والنقابة العامّة للعاملين في القطاع العام في جنوب أفريقيا، واتحاد عمال النسيج العالمي، والاتحاد الدولي للعمال... فكان ردّ التنظيم النقابي الرسمي على هذه الرسائل أنها تُعتبر تدخّلاً في الشؤون الداخلية المصرية.
التضامن الداخلي مع عمّال غزل المحلّة شهد تطوّراً ملحوظاً. ففي اليوم الأول للإضراب، أعلن عمّال المطاحن في الجيزة وعمّال غزل كفر الدوار التضامن بوقفات رمزية هدّدوا بتحويلها إلى إضرابات إذا ما استدعى الأمر، كما أعلن طلّاب من جامعات طنطا والقاهرة وحلوان الموقف نفسه. ولكن التضامن الأقوى كان بين عمّال غزل المحلة أنفسهم، والذي ظهر في اقتسام طعام الإفطار والسحور، وظهر بقوّة عند تحويل مجموعة من العمال إلى النيابة العامة.
وقد حضر وفد من أعضاء الحزب الوطني الحاكم إلى الشركة قالوا إنهم مفوّضون من الرئاسة لحلّ الأزمة، إلا أنهم لم يقدّموا للعمال أي أقتراحات جدية، وطردهم العمال واستأنفوا الإضراب.
وشهد الإضراب تدخّلات عديدة من أجهزة الأمن. فيوم إعلانه، تواجدت قوّات أمن كثيفة في محيط الشركة فأصبحت شبه محاصرة. وشهد اليوم الثاني تصعيداً تجسّد في إحالة 8 من القيادات العمّالية في الشركة إلى النيابة العامّة بتهمة التحريض والتسبّب بخسارة 10 ملايين جنيه. وقد أفرجت النيابة عنهم ولكنهم احتجزوا في مباحث أمن الدولة حتى ساعة متأخرة من الليل. في اليوم الثالث بدأ العمال يشعرون بالخطر، إذ قامت الشركة بتعليق منشور يعلن أنها في إجازة وهو ما يعني أن وجود العمّال في الشركة غير قانوني، وأن الإدارة قد تبادر إلى تسليم الشركة المغلقة إلى الأمن ليقوم بإخلائها. تزايد إحساس العمّال بالخطر في اليوم التالي، حينما حاولت إدارة الأمن في الشركة إغلاق البوّابة ساعة الإفطار، وهو ما كان يعني عزل العمال داخل الشركة ومنع دخول من ذهب منهم للإفطار. قاوم العمّال فوراً إغلاق الأبواب وظلّوا يتظاهرون عند الأبواب المغلقة حتى تم فُتحَت، واعتذر رئيس قطاع الأمن للعمّال، وبرّر ذلك بضغوط من أمن الدولة. وقد استمرت التحرّشات الأمنية في اليوم التالي بعدما أُشيع أن العمّال يستعدّون لإحراق الشركة إذا تمّ اقتحامها من الأمن، وهو ما نفاه العمّال مستدلّين بأنه وفي جميع الإضرابات السابقة، كان العمال يحافظون على معدّات الشركة وخاماتها، وأن شائعات التخريب يطلقها الأمن لتبرير عملية الاقتحام. وقد واجه العمّال التهديدات المستمرّة باقتحام الإضراب من قبل قوّات الأمن وفضّه بالقوة بالبقاء متيقّظين طوال الليل والقرع المستمر على البراميل البلاستيكية وإطلاق الصفارات حتى يخبروا قوّات الأمن بأنهم في حالة يقظة دائمة، كما ساعد في تجنّب ذلك وجود وسائل إعلام كثيفة على مدار الساعة.
وحدها محطّة الكهرباء والمياه التابعة للشركة لم يتمّ إيقافها لأنها تغذّي وحدات سكنية تابعة للشركة، وكذلك يعتمد العمل في المستشفى التابع للشركة على الكهرباء والمياه من هاتين المحطّتين. والموقف أيضاً لم يتوقف العمل فيه لأنه يخدم سيارات إسعاف وباصات لنقل الطلبة إلى الجامعات. «ونحن لا نضرب ضدّ هؤلاء» كما قال أحد العمّال.
تجاهل الحكومة للعمّال لم يدم كثيراً. فبعد خمسة أيام من إعلان الإضراب والاعتصام، توجّه وفد إلى المحلة وطلب عقد جلسة تفاوض مع العمّال استمرّت حتّى الفجر، وانتهت إلى تلبية مطالبهم. أصرّ العمال على صدور منشور رسمي ولصقه في الشركة قبل فضّ الإضراب، وهو ما حصل.
إن إضراب عمّال غزل المحلة الأسبق في كانون الأول 2006، كان الشرارة لموجة عارمة من الإضرابات العمالية شملت مصر كلّها، وآخرها عاد إلى المنطلق، في المحلّة، بعد عشرة شهور.
* صحافي مصري