strong>محمد مصطفى علوش *
حدثان بارزان طرآ على واقع السلفية الجهادية في الجزائر في الآونة الاخيرة، حملا في طيّاتهما الكثير من التساؤل عن مصير «تنظيم القاعدة في بلاد المغرب العربي». تجلّى الأوّل في إقصاء «عبد الملك دروكدال» الملقب بـ«مصعب عبد الودود»، الأمير الوطني للتنظيم بعد أن اُستخلف على رأس التنظيم شاب غير معروف يُدعى «أحمد هارون»، فيما تجلّى الأمر الثاني بإعلان السلطات الجزائرية عن تسليم حسن حطّاب، مؤسّس «الجامعة السلفية للدعوة والقتال» التي انشقّت عن الجماعة الإسلامية المسلّحة، نفسه للسلطات رغبة منه في الإفادة من «المصالحة الوطنية» التي دعا إليها الرئيس الجزائري عبد العزيز بو تفليقة.
الغريب في الأمرين، هو ما صاحبهما من ملاباسات عديدة تكشف إمّا عن حالة ارتباك داخل التنظيم وسط اختراق الأجهزة الأمنية الجزائرية له، أو عن ولادة انشقاقات واندلاع مواجهات واهتزازات أمنية في الشارع الجزائري تماشياً مع الاستراتيجية الجديدة للتنظيم.
ما يسجل في هذا الإطار أوّلاً، هو أنّ تنظيم «الجماعة السلفية للدعوة والقتال» أُنشئ اعتراضاً على الإيغال في قتل المدنيّين على يد «الجماعة الإسلامية المسلّحة» ـــــ التنظيم الأمّ ـــــ وأنّ مؤسّس التنظيم حسن حطاب، بحسب ما تؤكّد المعلومات، كان يرغب في المصالحة مع النظام، لكنّ الاجتماع الذي عُقد لأعضاء التنظيم الجديد في أيلول 2003 للتشاور في شأن مشروع الوئام والمصالحة، انتهى إلى عدم رغبة الغالبيّة في المصالحة خلافاً لرغبة المؤسّس، الأمر الذي أدّى فيما بعد، إلى إقصاء المؤسّس حطاب عن رأس التنظيم وانحدار من جانب التنظيم في عمليات القتل العشوائي مجدّداً على غرار التنظيم السابق. وهذا إن دلّ على شيء، فإنّه يدلّ على تخبّط في الرؤى والاستراتيجيّات داخل بنية التنظيم نفسه.
ثانياً، إنّ ما أصاب حطاب مع تنظيمه الذي أسّسه، هو نفسه ما أصاب عبد الملك دروكدال مع التنظيم؛ فالأوّل أُقصي وتمّ تهديده من مساعده دروكدال بالقتل إذا قاد التنظيم نحو المصالحة، والثاني أُقصي عن التنظيم بعد عدّة أشهر من ترؤّسه لتنظيم «القاعدة» الذي أعلن ولادته بنفسه. وقد يعني هذا التحوّل فيما يعنيه، أنّ بذور الانشقاقات انتقلت إلى التنظيم الجديد من رحم التنظيم السابق، وأنّه بات يفتقر إلى مركزية القرار، وأنّ أجنحة جديدة منشقّة بدأت تتألّف على أرض الواقع من دون أن تعلن رسميّاً عن نفسها.
إنّ خبر إقصاء دروكدال عن رأس التنظيم جاء من تسريب الأجهزة الأمنيّة التي على ما يبدو، استطاعت عبر ميثاق المصالحة والوئام الاستفادة من التائبين وتجنيدهم لخرق التنظيمات الجزائرية المسلّحة وضربها في الصميم. وكانت صحيفة «الخبر» الجزائرية قد كشفت عن الموضوع قبل نحو أسبوع مرفِقة تفاصيل دقيقة تدلّ على حجم الاختراق الأمني للتنظيم، بل وكشفت قائمة من أسباب الإقصاء.
ففي التفاصيل، أنّ قادة تنظيم «القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي» عقدوا اجتماعاً في منطقة «جراح»، على الحدود بين ولايتي البويرة وتيزي أوزو، نهاية شهر آب، تمّ على إثره إبعاد الأمير الوطني للتنظيم، عبد المالك دروكدال، واستخلافه بأحمد هارون.
قد يكون من الممكن تفضيل سيناريو آخر غير الاختراق الأمني، وهو تسريب معلومات مغلوطة للصحف بتخطيط من الأجهزة الأمنيّة الجزائرية لكشف بنية التنظيم الجديد على غرار خرقها للتنظيمات السابقة واستفزازه لمعرفة المزيد عنه وعن نشاطاته وتركيبته الداخلية بعد التحذيرات العديدة التي تلقّتها السلطات الجزائرية من عدّة جهات دولية حول خطورة التنظيم الجديد ومحاولته استقطاب الجهاديّين من عموم القارة الأفريقية وتأسيس مراكز تدريب لتأهيل هؤلاء للعودة إلى بلدانهم وهز الأمن فيها، والتي كان آخرها ما أكده رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي من أنّه قدّم ملفّاً إلى السلطات الجزائرية عن حجم التهديدات التي ينوي تنظيم «القاعدة» تنفيذها في الجزائر. ما يدعّم من أرجحيّة هذا السيناريو أنّ عناصر التنظيم هم من الجيل الجديد الذي لا ملفّات أمنية سابقة في حقّه، فيما البعض عاد إلى الجزائر بعد الخبرة التي اكتسبها في حرب الشوارع في العراق، وأنّ أهداف التنظيم لم تعد محصورة في الانقلاب على النظام الجزائري، بل أصبحت جزءاً من منظومة دولية معقّدة الأهداف والنشاطات.
رغم أن التنظيم لم يعلن أي جديد حتى اللحظة بخصوص إقالة دروكدال، فإنّ معطيات عديدة ترجّح صحّة الخبر، منها اعتماد المعلومات (بحسب ما نقلت الأجهزة الأمنية للصحف) على شهادة عنصر تائب احتكّ باجتماع مع تسعة قادة في التنظيم هم الذين أقصوا دروكدال عن رأس القيادة، إضافة الى قدرة الاجهزة الأمنية على خرق الكثير وتفكيك البعض من الخلايا المسلّحة وعودة ما يُسمَّى «التائبين» ورجوعهم عن ممارسة العنف المسلّح، وما ينقلونه من أخبار عن تذمّر وإحباط وغبش في الرؤية في أوساط من تبقّى من مقاتلين.
إنّ التغيير في رأس القيادة جاء لينسجم مع الاستراتيجيات الجديدة للتنظيم التي ينوي اعتمادها في المرحلة المقبلة، حيث إنّ تسريبات الاجتماع أرجعت سبب إقصاء دروكدال إلى «عدم قدرته على مسايرة توجّهات القاعدة العالمية، المبنية على استهداف المصالح الخارجية، والابتعاد عن استهداف المدنيّين، بالإضافة إلى عجزه عن تجنيد المقاتلين في صفوف التنظيم» بعد سقوط مدنيّين كثر في عدد من العمليّات الأخيرة، وعجزه عن الإعداد لعمل مسلّح يطال شمال وشرق وغرب القارة الأفريقية فضلاً عن وسطها، وبناء معسكرات لإيواء الوافدين من خارج الجزائر، كان من المفترَض أن تبرز أولى لبناته في «تكثيف العمليات الانتحارية واستعمال الأحزمة الناسفة، خصوصاً في العاصمة الجزائر ومحافظة تيزي أوزو، واستهداف المصالح الخارجية ومؤسّسات الدولة الحسّاسة، والحرص على عدم سقوط مدنيّين في العمليات الانتحارية.
قد يوحي خبر الإقالة بأنّ هناك تخبّطاً يعيشه التنظيم، وأنّ الإقصاء جاء على خلفية انقسامات داخلية حادّة بين تيار مؤيد لدروكدال، وآخر معارض له، وهذا احتمال وارد وقوي إذا ما نظرنا للجدل والتخبط الذي وقع فيه التنظيم على خلفية محاولة اغتيال الأمير الجهوي السابق لـ«جيش الإنقاذ»، مصطفى كرطالي في 14 آب الماضي، حيث تبرّأ دروكدال في آخر بيان له من محاولة الاغتيال، محمّلاً المسؤولية لبعض أفراد التنظيم الذين نفّذوا الهجوم من دون الحصول على موافقة قيادة التنظيم. وأضاف القيادي حينها «لا نرى استهداف هذا الصنف من الناكلين عن الجهاد تحت غطاء الهدنة والمصالحة إلا من ثبت بالبينة تورّطه في حرب وقتل المجاهدين... فحكمه حينها القتل».
وإذا صحّ هذا التحليل، فإننا من دون شكّ، سوف نشهد حالات جديدة من الانقسامات، إضافة إلى اندلاع متجدّد لحمّى الصراعات الداخلية بين مقاتلي التنظيم بين الجناح الموالي لدرودكال والفريق الآخر الذي يرى أنّ خيار التفجيرات الانتحارية والاختطافات التي اعتمدها المتشدّد المعزول قبل أشهر كان سيّئاً، الأمر الذي سينعكس بدوره على الساحة الجزائرية عموماً.
وفي هذا السياق، ترى الأجزة الأمنية الجزائريّة ـــــ مهلّلة ومستبشرة ـــــ أنّ هذا التحوّل يعكس إحباطاً لدى التنظيم نظراً إلى عدم تجاوب تنظيم «القاعدة» العالمي مع العمليات الانتحارية والاعتداءات التي شنّها التنظيم منذ الإعلان عن الانضمام إليها العام المنصرم، وعدم «مباركة» أسامة بن لادن ومعاونه أيمن الظواهري لما يقوم به دروكدال في الجزائر، بالإضافة إلى عجز قيادة «القاعدة» في الجزائر عن تسويق صورة «القاعدة» كما هو حاصل في بلدان أخرى مثل العراق وأفغانستان. فضلاً عمّا ينقله التائبون الجدد من أنّ التذمّر والإحباط يسودان التنظيم بعد ثبوت افتقاره لأي وازع أو مرجعية دينيّة، وسط إدانة واسعة للاعتداءات من جمهور العلماء بمن فيهم الجماعة الإسلامية في مصر.
من المبكر الحكم على مصير تنظيم وُلِد وترعرع في بيئة هي غاية في التعقيد، ولها سجلّ حافل من العمل المسلّح ومن رحم أخطر التنظيمات السلفية الجهادية وأكثرها بطشاً والتي بقيت الوحيدة حتى اللحظة تصمّ آذانها عن دعوة الرئيس الجزائري للمصالحة، فضلاً عن المبرّرات المستجدّة لبقائها والمتمثلة في القاعدة الاميركيّة الجديدة التي ستكون من أكبر القواعد الأفريقية في المنطقة «أفريكوم»، والتي ستطال نشاطاتها كل المنطقة انطلاقاً من أفغانستان وباكستان شرقاً وحتى المغرب غرباً.
* كاتب لبناني متخصص في شؤون الجماعات الإسلامية