هشام البستاني *
الأنظمة العربية بمجملها هي أنظمة معلّقة في الهواء، لا تمتلك أي شرعيّة تمثيليّة، وهي موجودة بحكم الإرث الكولونيالي، وتستمرّ في مكانها بالدرجة التي تستطيع خدمة المشروع الإمبريالي وتقديم التسهيلات له. والأنظمة العربية ليست «أيقونات مقدّسة» لدى الولايات المتحدة، وليست جزءاً عضوياً بالدرجة التي يمثّلها الكيان الصهيوني على سبيل المثال، وبالتالي فهي قابلة للاستغناء عنها في أيّ وقت تتوقّف فيه عن كونها مفيدة لها بشكل أو بآخر، أو تبدأ بالتحول الى عبء سياسي أو «دعائي» عليها.
الحديث الأميركي عن الديموقراطية حديث كاذب، الغرض منه إخضاع الأنظمة العربيّة (التسلّطية بطبيعتها) الى مزيد من الابتزاز ومزيد من الخنوع والتنازلات، ولا يرعب الأنظمة التسلطية الفاقدة للشرعية الشعبية شيء أكثر من حديث «الديموقراطية»، وبالتالي فهو من أهم الأدوات لابتزازها. إضافة الى أنّ «الديموقراطية» تبقي الخيارات الأميركية مفتوحة أمام قوى أخرى تتطلّع إلى تسلّم السلطة، وبالتالي فتح قنوات للتفاهم معها واستكشاف مدى قدرتها على التوافق والمصالح الأميركية. من ناحية ثالثة يؤدّي ادّعاء «الديموقراطية» دوراً مهماً في الدعاية الأميركية داخل الولايات المتحدة نفسها وعند قسم من جمهور الدول العالمثالثية، وبالتالي يشكّل ذريعة أساسية للتدخّل والهيمنة.
لهذا، تقع الأنظمة العربيّة فريسة للابتزاز والرعب: الابتزاز خارجيّاً من قوى دوليّة قادرة على قلبها في أي وقت، والرعب داخلياً من أي أشكال سياسية تحمل شرعية شعبية ما (مثل الحركات الإسلامية)، وخصوصاً إذا كان في إمكان هذه الأشكال أن تكون بديلاً مقبولاً للأميركيّين، ومن الممكن التفاهم معها.
في العراق، يمثّل الحزب الإسلامي العراقي أحد أركان العملية السياسية العميلة للاحتلال، فيما يصطفّ الإخوان المسلمون السوريّون الى جانب المنشق عبد الحليم خدام المقرّب من الدوائر الفرنسية والأميركية والجاهز للتوظيف في أي مشروع مفترض للتدخل في سوريا، وبينما يعلن الإسلاميون في الأردن ثوابت سياسية راديكالية فيما يتعلّق بفلسطين والعراق، لكنّهم يواجهون بشراسة أي خطاب يشخّص «عمالة» الحزب الإسلامي العراقي، ولا يجدون غضاضة في الاجتماع مع المساعد الثاني لوزير الخارجية الأميركي عام 2001 إثر أحداث 11 أيلول. وهم يستمرّون في لقاءاتهم مع دوائر محسوبة على اليمين الأميركي مثل ممثّلي معهد «كارنيجي» للسلام، ويشاركون في فعاليات منظّمات معروفة محلّياً بتلقّيها التمويل الأجنبي المشبوه، والأميركي منه على وجه الخصوص. أما حركة «حماس» في فلسطين، فقد ارتضت لنفسها الدخول في «انتخابات تشريعية» والصعود إلى «مجلس تشريعي» وتشكيل «حكومة» ضمن أطر العملية السياسية الخاضعة للاحتلال الصهيوني والمؤسّسة في اتفاقات أوسلو، وبدأت الآن تتحدّث عن «دولة فلسطينية في حدود 1967»، أي أنها بدأت التعاطي مع الواقع كقوّة سياسية سلطوية تريد المحافظة على مكتسبات هزيلة (سبقتها «فتح» إلى هذا الطريق منذ مدّة طويلة)، بدلاً من الاعتراف بأنّ «الدولة الفلسطينيّة» ليست دولة على الإطلاق، والحفاظ على نفسها في خندق المقاومة.
الإسلام السياسي ليس مستهدَفاً بحد ذاته من الإدارة الأميركية، المستهدف هو المقاومة تحت أي مسمّى كانت، ففي أميركا الجنوبية وجنوب شرق آسيا تأخذ المقاومة شكلاً يسارياً (القوّات المسلّحة الثورية الكولومبية، الحزب الشيوعي الفيليبيني، الحزب الشيوعي النيبالي)، فتحاربها الولايات المتحدة. وفي المنطقة العربية تأخذ المقاومة شكلاً إسلامياً، فتحاربها الولايات المتحدة أيضاً. الجامع المشترك هو المقاومة لا الإسلام. في الواقع، لا مانع لدى الولايات المتحدة من التعاطي مع إسلام معتدل (النموذج التركي وتناسخاته، ولا ضير من ملاحظة أن الإسلام السياسي التركي يحافظ على علاقة التحالف الاستراتيجي الكلاسيكية مع «إسرائيل»)، بل وربما تفضّل الولايات المتحدة تسليم المنطقة للإسلاميّين المعتدلين لعدّة أسباب، أهمّها أنهم يشكّلون قوّة ذات امتداد شعبي واجتماعي، وهم قادرون على التحدّث مع الناس وبلغتهم، ولديهم مؤسّسات اجتماعية واقتصادية وسياسيّة، على العكس تماماً من الأنظمة العربية الحاكمة التي ليس لديها أي شيء من هذا، ولهذا تضطر الى المنع والقمع للحفاظ على سلطتها، وبالتالي الحفاظ على المصالح الأميركية.
هذا يمكن أن يفسّر لنا مقدار رعب السلطة السياسية في الأردن ومصر من الحركة الإسلامية، رغم أنّ هذه الأخيرة لم تتحوّل إلى الراديكاليّة، وما زالت تطرح نفسها حركة معتدلة وسطية، وما زالت تمارس أنشطتها ضمن التفاهمات التقليديّة. الجديد هو أنّ الأنظمة بدأت ترى أن بدائل أنجع قد تكون في طور التشكل، وبالتالي فهي ــــــ وقائياً ـــــ تحاول تفتيتها داخلياً، فيما تخوض معركة علاقات عامّة خارجية لإقناع الأميركيّين بأن هؤلاء الإسلاميين ليسوا معتدلين على الإطلاق (اعتقال ومحاكمة النوّاب الإسلاميين الذين زاروا بيت عزاء الزرقاوي في الأردن، التأكيد المستمر على روابط الإسلاميين مع «حماس»، خوض معارك على قواعد اجتماعية مع قيادات الحركة الإسلامية مثل الحملة الأخيرة على الأمين العام لحزب جبهة العمل الإسلامي في الأردن بدعوى تهجّمه على العشائر...).
الإشكاليّة المزدوجة تتجسّد في أنّ الحركة الإسلامية المتعطّشة للسلطة ترى أنّه لا أفق في المعادلات السياسية سوى بالخضوع للإملاءات الأميركيّة والاسرائيليّة لأنّ السلطة التي تتعطّش لتسلّمها ذات بنية تابعة، ولعلّ مثال «السلطة الفلسطينية» ساطع في وضوحه، فضمن أشكال سلطوية تابعة، ليس هناك أسهل من خنق وابتزاز من يكون على كرسي الحكم.
على الجهّة الأخرى، تدفع الإجراءات التي تمارسها الأنظمة لتفتيت الحركات الإسلامية المعتدلة، إلى نزول أجزاء من هذه الحركات تحت الأرض، وتوليد مجموعات وظواهر عنفيّة تدمّر المجتمع، بل إنّ الأنظمة ربما تتعمّد هذه المسألة لأنّه عندها تثبت نظريتها (الموجّهة إلى الخارج) بأنّ الحركات الإسلاميّة المعتدلة هي عنفيّة في جذورها ولا يمكن التفاهم معها، فيما يصبح المجتمع بحاجة إلى السلطة لأنه يفترض أنها قادرة على الحفاظ على أمنه. ويبدو أنّ العنف السياسي هو ظاهرة تنتجها السلطة للحفاظ على نفسها في موقع السلطة، لأنها فاقدة لأي شرعية شعبيّة حقيقيّة، وتحتاج دائماً إلى مبررات داخلية وخارجية لاستمرارها في مكانها.
على الإسلاميين الذين يصنّفون أنفسهم في خانة الوضوح السياسي، أن يعوا استحالة التوفيق بين برنامج «تحرّري» وسلطة ذات بنية تابعة، وأن يحسموا خياراتهم بعيداً من برنامج براغماتي يسمح للقوى الدولية والإقليمية بتوظيفهم واحتوائهم.
هذا من جانب، ومن جانب آخر، عليهم أن ينفتحوا مدنياً على قوى أخرى لا دينية (قومية وماركسية) لحمل برنامج تحرّري مدني علماني، والتعلّم من تجارب لبنان والعراق حيث يشكّل المدخل الديني والطائفي أساس لعبة التفتيت والهيمنة، ووضع الناس في مواجهة بعضهم لبعض بدلاً من مواجهة عدوّهم.
* كاتب وباحث من الأردن