strong>ناهض حتر *
في تسريب متعمّد، تناقلت الأوساط السياسية والإعلاميّة الأردنية حديثاً خاصّاً ليس للنشر، للملك الأردني عبد الله الثاني، أكّد فيه أنه قلق للغاية من صفقة بين الرئيس الفلسطيني محمود عبّاس ورئيس الوزراء الاسرائيلي إيهود أولمرت، على حساب الأردن، تُغطّى دولياً في مؤتمر أنابوليس الذي دعا إليه الرئيس الأميركي جورج بوش لبحث القضية الفلسطينيّة.
وألحّ الملك في لقاء مع 13 شخصية سياسية في منزل عبد الرحيم العكور في شمال البلاد، أن عبّاس وأولمرت تحدّثا إليه عن تفاؤلهما الشديد بالتوصّل إلى اتفاق من دون أن يُطلعاه على مضمونه. ولاحظ أنه «لا يرى ما يبرّر هذا التفاؤل في الواقع» معدّداً الإجراءات الإسرائيلية التي تنسف العمليّة السلميّة، وآخرها مصادرة أراضٍ فلسطينية في القدس الشرقية من شأنها تقسيم الضفّة الغربيّة إلى قسمين منفصلين، وتحول عملياً دون إنشاء دولة فلسطينية. وكرّر الملك عبارة «يدي على قلبي»، حاثّاً على التضامن والصمود، ولكن وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس استطاعت في لقاءات سريعة مع الملك الأردني والرئيس المصري حسني مبارك، أن تتجاوز مخاوف الأوّل وتحفّظات الثاني، وتردّد دعوتهما إلى جدولة المفاوضات الإسرائيلية ــــــ الفلسطينية، أو تأجيل «المؤتمر» لحين توفير نجاحه.
سيكون «المؤتمر» احتفاليّاً من دون جدول زمني لإنجاز المفاوضات في قضايا الحلّ النهائي، ومن دون تفاصيل أو وثيقة تضع النقاط على الحروف، وفق الشرعية الدولية. ومع ذلك، قبِل المسؤولون الأردنيون والمصريون، كما هو ظاهر، بالتنازل عن تحفّظاتهم ومطالبهم، ولم يعد هنالك شكّ في أنّ البلدين سيحضران «المؤتمر»، مهما كان مضمونه.
لنقل أولاً، إنّ الشرط الإسرائيلي المعلَن على لسان وزيرة الخارجية تسيبي ليفني، والقاضي بعدم تدخّل عواصم الاعتدال العربي في التفاهمات الإسرائيليّة ـــــــ الفلسطينيّة، قد تحقّق.
ثانياً، لقد أُنجزت تلك التفاهمات فعلاً بين الطرفين «المتفائلين للغاية»، وسط خيبة أمل المعتدلين العرب الذين لا يعرفون ماذا يحصل بالضبط في كواليس المفاوضات بين محمود عباس وإيهود
أولمرت.
القاهرة، الحانقة على تراجع دورها الإقليمي الوحيد الباقي، أي دورها وسيطاً بين رام الله وغزة، وبين رام الله وتل أبيب، لا تشعر بالخطر المقبل، لكن يد عمّان على قلبها: فأية صفقة بين «السلطة» وإسرائيل سوف تؤثّر مباشرة في المصالح الوطنية الأردنية، بينما تظلّ القاهرة والرياض في منأى.
على كلّ حال، سيشدّ كل المعنيّين الرحال إلى أنابوليس، للمشاركة في مؤتمر ليس مقصوداً لذاته، بل لتحقيق هدفين: أوّلهما أميركي، للاستهلاك الداخلي في سنة الانتخابات الرئاسية، وثانيهما إسرائيلي، للتغطية على أوسلو 2، ومنح الشرعيّة العربيّة والدوليّة للصفقة الإسرائيلية ــــــ الفلسطينية المحتملة.
ولا يحتاج الأمر إلى سبر غور الأسرار. فإذا وضعنا البحث في حقوق الشعب الفلسطيني جانباً، ونظرنا إلى الواقع السياسي الفعلي، فسوف نجد أن الإطار العام ومحرّكات الصفقة الثنائية متوافرة تماماً، في لحظة فريدة من الإرهاق الكفاحي للشعب الفلسطيني:
أولاً، إنّ الهاجس السياسي الرئيسي الراهن الذي يسيطر على رام الله، هو كسب المعركة الداخلية ضد «حماس». وهو الأمر غير الممكن من دون التفاهم الاستراتيجي مع إسرائيل، والدعم الأميركي.
ثانياً، إنّ ذلك الاتفاق غدا ممكناً بالنظر إلى أنّ القيادة الفلسطينية أصبحت مستعدّة لتقديم تنازلات واسعة النطاق، نسجّلها هنا من تصريحات علنيّة لمسؤولين فلسطينيّين، منها:
ــــــ استبدال حدود 1967 بمساحة «الدولة» الفلسطينيّة. فالرئيس عبّاس يريد كيلومتراته المربّعة التي تساوي مساحة الضفّة وغزّة، لا الأراضي الفلسطينيّة المحتلّة بحدودها المعروفة. وهو ما يعني تحييد مشكلة المستوطنات والاستيطان والجدار العازل، من خلال القبول بتبادل الأراضي، بحيث تضمّ إسرائيل الكتل الاستيطانية وتتخلّص بالمقابل، من تجمّعات سكانيّة عربية داخل حدود 1948، وربّما توسيع حدود غزة في الصحراء.
ـــــ استبدال حقّ العودة إلى فلسطين التاريخية، حسب القرار الدولي 191، بعودة اللاجئين والنازحين إلى أراضي «الدولة» الفلسطينية، ما يعني سياسياً إسقاط هذا
القرار.
ــــــ القبول بترتيبات ميدانيّة معقدة في القدس الشرقية، هدفها مقايضة السيادة على القدس نفسها بالإدارة الفلسطينية للمقدّسات الإسلامية.
ـــ أما المشاكل المتعلقة بالمياه والجمارك والعلاقات الاقتصادية، فمن الممكن ترتيبها في مفاوضات فنية لا سيادية.
وفي ما يتّصل بمشكلة الأمن، فلا بدّ من ملاحظة نشوء نوع من الإجماع الاستراتيجي بين رام الله وتل أبيب، على العمل المشترك ضدّ «عدو» واحد هو «حماس» ومنظّمات المقاومة المسلحة.
بالنسبة إلى إسرائيل، فإن حلّاً كهذا هو الحلّ الذي يأخذ بالاعتبار جميع مطالبها من دون استثناء، ويذعن لـ«لاءاتها» جميعاً. فلا انسحاب إلى حدود 67، ولا نزع للمستوطنات وطرقها الالتفافية وجدارها العازل، ولا عودة للاجئين إلى ديارهم التي هجروا عنها. ذلك بالإضافة إلى الخلاص من قسم من السكان العرب
في 48.
وحقّ العودة إلى «الأراضي الفلسطينية» الممزّقة والمُعاد تعريفها كأرخبيل من الكانتونات داخل السيطرة الإسرائيليّة يظلّ بالطبع، شكليّاً تماماً. فمن الناحية الواقعيّة، لا يمكن استيعاب ملايين اللاجئين الفلسطينيّين في ستة آلاف كيلومتر مربعة ونيّف، الممزّقة من حيث الاتصال الجغرافي، والمكتظّة بالسكان، والمتدنّية الموارد والبنى التحتية، والمرتبطة اقتصادياً وأمنياً وخدماتياً بإسرائيل. فالعودة إلى الوطن ليست خياراً عاطفياً، بل يقوم على الإمكانية الفعلية للاستيعاب بشروط أفضل من شروط المهاجر. لا الإمكانية متوافرة، ولا تلك الشروط، وهو ما يؤدّي بصورة عكسيّة، إلى إيجاد شروط ضاغطة للهجرة خارج فلسطين وإلى الأردن تحديداً.
و«الصفقة» مع ذلك، لن تتمّ وفق جدول زمني، بل في سياق عملياتي مفتوح يتمحور حول الجانب الأمني، والنضال المشترك ضد «حماس» والمقاومة، ويتيح لإسرائيل استكمال برامجها في الضفة، بما في ذلك إنجاز الجدار العازل، وتوسيع الكتل الاستيطانية، وشبكة الطرق
الالتفافية...
والخطوة التالية الحتمية في حلّ كهذا هي توضيب أرخبيل «الدولة» الفلسطينية في صيغة كونفدرالية مع الأردن، من شأنها أن توفر إطاراً واقعياً لاستيعاب الصفقة الاسرائيلية ـــــ الفلسطينيّة:
أولاً، لجهة اعتماد الشراكة الأمنية الناجعة للدولة الأردنية، في ضبط وصيانة أمن «الدولة» الفلسطينيّة، وأمن الترتيبات الجغرافية المعقّدة مع إسرائيل.
ثانياً، لجهة ترتيب الوضع السياسي والقانوني للقسم الأكبر من اللاجئين والنازحين الفلسطينيّين، الموجودين أصلاً في الأردن، أو الذين سينتقلون من الضفة وغزة وسوريا ولبنان، إلى أراضي «الكونفدرالية».
ثالثاً، لجهة توفير سياق واقعي لبلورة الحقوق السياسية الفلسطينية خارج فلسطين في دولة قائمة وناجحة هي الأردن، وقادرة على استيعاب الديناميّة الاقتصادية للرأسمالية الفلسطينية الباحثة عن «مركز»
آمن.
* كاتب وصحافي أردني