نسيب حطيط *
قرأت مقابلة المفكّر السوري الأستاذ صادق جلال العظم بتاريخ 15/10/2007 في صحيفة «الأخبار»، وتوقّفت عند آرائه بشأن حرب لبنان الثانية، وتوصيفه للانتصار الذي جاهر به حزب الله وحلفائه، بالإضافة إلى موقفه من الخطاب الإسلامي وعدم تصديقه له، ووصفه بالمتملّق والتكتيكي. وانطلاقاً من واجبي الديني والوطني، أودّ أن أضع بعض الملاحظات حول هذا الموضوع:
أولاً، إنّ إيجابية كلام الأستاذ العظم يكمن في أنّه رسم موقفاً ثالثاً في توصيف نتائج حرب تموز 2006 بالاعتراف بالانتصار، لكنّه لم يعطه علامة الامتياز، من خلال امتناعه عن إضافة تعبير «المظفَّر» إلى لفظة الانتصار، وبالتالي جاء في المنطقة الوسط بين وجهة النظر التي تقول بالانتصار «الإلهي»، ووجهة النظر القائلة بالهزيمة المطلقة للمقاومة في لبنان. ولعلّ عدم إضافة «المظفَّر» نتيجة العقلانية الزائدة، والاحتياط المبالَغ فيه بسبب التجارب السياسية الماضية.
ثانياً، إنّ توصيف انتصار المقاومة كنتيجة وليس فعلاً مقاوماً، لأنّ إسرائيل لم تربح الحرب، وبالتالي فإنّ الانتصار اللبناني هو عدم الخسارة، يمثّل إجحافاً أو تضعيفاً لهذا الانتصار على المستوى المادّي العسكري. فالانتصار بالمعنى العسكري للمقاومة، قد تحقّق كلياً، لأنّ الأهداف والمسؤوليّات التي أعلنت عن تحمُّلها قد تحقّق بالكامل، ومنها:
أوّلاًَ، الدفاع عن لبنان ومنع إعادة احتلاله أو الاعتداء عليه ساعة يشاء العدوّ الإسرائيلي. وقد نجحت المقاومة في ذلك طيلة 33 يوماً، وانتهت الحرب ولم تبقَ إسرائيل في أرض دخلتها أثناء الحرب.
ثانياً، عدم حصر العمليات العسكرية داخل الأراضي اللبنانية كما كانت الحال سابقاً، بل صارت أرض العدو مسرحاً للقصف والخسائر على جانبي الحدود، سواء بالقتلى العسكريّين أو المدنيّين، أو بالخسائر المادية أو بحركة التهجير، حتى لو كانت النسب مختلفة، وهذا طبيعي نتيجة اختلال التوازن في القوى، والواقعية (والعقلانية الواعية) عند المقاومة، فالواقع هو أنّ دولة كانت تقاتل حزباً وبالتالي فالمعايير متفاوتة.
ثالثاً، على مستوى الخسائر العسكرية، وفي أقل التقديرات، فإنّ خسائر المقاومة من الشهداء والجرحى لم تزد على خسائر الجيش الإسرائيلي، هذا إن لم يكن العكس هو الصحيح، مع ضرورة عدم نسيان القدرات التقنية الإسرائيلية. أما نهاية الحرب، فلم يقرّرها أي من الفريقين بالحسم العسكري، وإنّما عبر الأمم المتحدة كطرف ثالث يحكم بين النزاعات، وأنّ بنود القرار كانت بشكل متوازن إلى حدّ ما.
أما لناحية أن الانتصار «قد سدّ الأفق بوجه حزب الله بالنسبة إلى متابعة قتاله ضد إسرائيل في مناطق وجوده الأهلي والعسكري من جنوب لبنان»، فالظاهر أن الأستاذ العظم كبعض غيره من الجمهور العام أو السياسي يعتقد بأن المقاومة في لبنان تقاتل من أجل أن يسقط مجاهدوها شهداء أو تقاتل من أجل القتال فقط، وليس بهدف تحرير الأرض والدفاع عن الوطن، أو كما يظنّ البعض أن قتال المقاومة في لبنان لتحقيق أهداف بعض الدول الإقليمية، بينما المقاومة هي ردّ فعل على الاحتلال وعلى المجازر. وإذا ما انتهى وجود الاحتلال أو التهديد أو القتل، فإن أهل المقاومة سيعودون إلى حقولهم ومدارسهم ومصانعهم وإلى منتدياتهم الثقافية والفكرية، وأعمالهم العبادية، غير آسفين على أيام القتل والدم وتشييع الشهداء والإقامة في المقابر.
أما لجهة صراحة الأستاذ صادق العظم بأنه ليس نصيراً لحزب الله، فهذا من حقّه. غير أنّ اللافت هو جزمه بعدم إمكان ذلك: «لست من أنصار حزب الله أيديولوجياً ولا يمكن أن أكون كذلك بحكم تركيبته الطائفية».
وكأنّ الموقف الأخير هو امتداد للموقف الفكري للأستاذ العظم من الفكر الديني، عندما طرح كتابه (نقد الفكر الديني) ليصل فيه إلى نقد الفعل الديني، وبالتالي فهو يرفض الفكر والفعل الديني، ويمكن أن يكون هذا الموقف نتيجة حقبة زمنية كان الحكّام يستعملون الدين كفتوى لاستعباد الناس أو إغراقهم في الظلمة والجهل وعدم المعرفة، والاستكانة. وكان هذا فعل أولي الأمر من علماء وسلاطين، ولم يكن فعل الدين، بل المستغلين له. فنحن الذين نحمل الفكر الديني لا تجمعنا الأيديولوجيا مع الكثير من الشخصيات أو الحركات الثورية، لكنّنا نتضامن معها أو نؤيّدها، لأنها تقاتل لنصرة المستضعفين والمحرومين والمظلومين كالمناضل غيفارا أو الثورة الساندينية في نيكاراغوا وغيرها... وهذا ما يمثّل القاسم المشترك بيننا.
مع أنّ المساحة المشتركة بالمعطى النضالي والوطني والإنساني أراها واسعة، بينما يعتقد الأستاذ العظم في الظاهر على الأقلّ، كمفكّر يحمل الآراء التحرّرية والإنسانية، وبين ما تقوم به المقاومة في لبنان، بمناهضة مشاريع الاستعمار الجديد والاحتلال الوحشي على لبنان والمنطقة وهذا ما يحتّم ضرورة التضامن دون الذوبان الكامل.
لكن ما يلفت الانتباه، هو تكرير الأستاذ صادق العظم وتأكيد عجزه عن استقراء المرحلة القادمة أو مستقبل المنطقة أو العلاقات اللبنانية ـــــ السورية ليعود إلى «التنجيم وقراءة الطالع» المتناقضين مع العقلانية الزائدة التي استند إليها في تصنيف حجم الانتصار، مع أنّه جزم في قراءة مستقبل موقفه من حزب الله الذي «لن يكون نصيراً له»، مع أنّ التركيبة الطائفية للحزب لم تمنع الاستفادة من نتائج ومؤثّرات فعله الثوري والمقاوم من معنويات وعزّة الأجيال المهزومة حتى العظم، وتلك التي تشكّك بقدراتها على الانتصار، ولا تصدّق نفسها إن انتصرت، وهذا ما يبرّر للعظم نقده وشكّه وعقلانيته الزائدة بعدم تصديق الانتصار، فهو من جيل عربي كبّلته هزائم الحروب المتكرّرة مع إسرائيل، والعثمانيّين والفرنسيين والبريطانيّين، ومن جيل عربي هزمته الأنظمة وانتصرت عليه، وهزمته الأحلام التي راودته بعد بعض الانقلابات أو الثورات العالمية.
لعلّ المطلوب من المفكّرين والمقاومين والجماهير وكل أبناء الأمة، ألّا ينتقدوا ما قام به إخوتهم لتحرير الأمة والأرض، وكأنّهم غير معنيّين، بل أن يشاركوا كلّ في موقعه، لتكامل الجهد والواجب، ولسدّ الثغر التي لا تستطيع أي حركة مقاومة أن تغطّيها. وإذا ما تعارضت العقائد والأيدلوجيات حول ارتباطها بالسماء أو الأرض، فيجب على الأقل، رعاية وتنمية المساحة المشتركة في مواجهة الاستعمار والاحتلال، «فالإنسان إمّا أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق»، وإذا كان الخلاف على اسم النصر هل هو «نصر إلهي» أم «نصر بشري»، فالجامع بين وجهتي النظر تحقيق «النصر»، ولينظر كل وفق عقيدته عن أسباب النصر طالما أن النتائج متّفق عليها، وألّا نُحبط من انتصر كلياً، ونخاصم من انهزم، لتنقسم الأمة بين مهزوم ومحبط وناقد لتصبح خارج دائرة الفعل والممانعة.
* كاتب لبناني