ياسين تملالي
عندما ضحّى الشيوعيّون بالمسألة القوميّة على مذبح صراع الطبقات


ليس كتاب رينيه غاليسو تأريخاً جديداً للاحتلال الفرنسي للجزائر، فموضوعه أكثر دقّة وتحديداً: تحليل القوانين التي خصّت بها فرنسا منذ تحوّلها إلى دولة جمهوريّة سكّان البلاد الأصليّين (الأهالي أو «الإنديجان»)، وتقويم أثرها في إيديولوجيا الحركة الوطنية وفي علاقات هذه الحركة بالحركتين العمّالية والنقابيّة.
ويُرجع رينيه غاليسو في مقدّمة الكتاب أصل مصطلح «الأهالي» إلى حقبة تاريخية، هي القرن الـ19، تميّزت في أوروبا بتنامي تأثير ما يسمى «الأنتروبولوجيا الفيزيائية»، المختصّة بدراسة «الأعراق» ومميّزاتها الجسمانيّة والنفسيّة. وشكّل هذا العلم المزعوم، يقول الكاتب، إحدى الدعائم النظرية للعنصرية الاستعمارية.
وعكس ما كان متوقّعاً، فإن الجمهورية الفرنسية لم تتبنَّ في علاقاتها مع سكّان المستعمرات إيديولوجيا مختلفة عن إيديولوجيا الإمبراطورية البائدة المبنيّة على فكرة مضمَرَة هي فكرة تفوّق الأعراق الأوروبية. وامتدّ تأثير هذه الإيديولوجيا إلى الحركة الاشتراكية نفسها، فكان اشتراكيو أواخر القرن الـ 19 الفرنسيون يؤمنون بأن مهمّة بلدهم «تحضير» الجزائريّين وإنقاذهم من غياهب حياتهم البدائية... لذلك لم يتردّد أحد أقطابهم، «أبو المدرسة العلمانية» جول فيري، في القول: «لا تطمح فرنسا فقط إلى أن تكون بلداً حراً. إنها تطمح كذلك إلى أن تكون بلداً عظيماً ينشر في كل مكان عاداته ولغته وسلاحه وعلمه وعبقريته».
وكان من نتائج شيوع هذه الإيديولوجيا في الكثير من الأوساط السياسية والفكرية أن القوانين الفرنسية التي طبِّقَت على الأهالي في الجزائر ابتداءً من 1870، تاريخ إعلان الجمهورية، لم تختلف عن سابقاتها المطبقة إبّان العهدين الملكي والإمبراطوري، فكانت هي أيضاً قوانين خاصة («قوانين الأنديجينا») جعلت من ديانة الأهالي محدّد هويتهم الأوحد الوحيد، وفق نظرة استشراقية قديمة تزعم أن شعوب الشرق شعوب متزمّتة شديدة التعلق بالدين.
وفي ظل قوانين الأنديجينا، لم يعد الاسم الرسمي للغالبية الساحقة من الأهالي هو «العرب» ولا «البربر»، إذ أدمجوا تحت تسمية واحدة: «المسلمين». ولم ينفع هؤلاء «المسلمين» كونهم «رعايا الجمهورية» في الإفادة من «حقوق الإنسان والمواطن»، بل إن هذه الحقوق، كما يقول جيل منسرون، «كانت تُستعمل كأحد مبررات الاستعمار». أما الأقليّة اليهوديّة، فرغم العنصريّة السائدة آنذاك، فإنّها حظيت بحق المواطنة الكاملة بعد صدور «أمرية كريميو» في 24 تشرين الأول1870، ما كان بداية لانعزالها عن مسار تكوّن الأمة الجزائرية، انعزال كانت خاتمته هجرة معظم أعضائها إلى فرنسا بعد إعلان الاستقلال في 1962.
وكان إلغاء «قوانين الأنديجينا» أحد مطالب الحركة الوطنية الجزائرية على اختلاف تياراتها ابتداءً من بداية القرن العشرين، ذلك أن هذه القوانين لم تكن تفرق بين «الرعايا الأهالي» و«المواطنين الفرنسيّين» في مجال الأحوال الشخصية فقط، بل امتدّ التمييز إلى مجالات أخرى، كالنظام التعليمي الذي أنشئت فيه، بمقتضاها، شعبة خاصة هي «شعبة المدرّسين الأنديجان».
كيف كان تأثير هذه القوانين على مسار تكوّن القومية الجزائرية؟ في رأي رينيه غاليسو، ساهمت هذه القوانين في اغتيال فكرة المواطنة الحديثة التي بدأت تتبرعم في ظلّ دولة الأمير عبد القادر الجزائري. ويقول الكاتب، رداً على رأي سائد يعتبر هذه الدولة التي قاومت الاحتلال من 1832 إلى 1847 دولة دينيّة، «رغم إعلانها انتماءها الإسلامي، لم تكن دولة الأمير تعتمد أرثوذكسية معيّنة كالأرثوذكسيّة الوهّابيّة في شبه الجزيرة العربية».
وبالطبع، ما كان بوسع المسلمين من «الأهالي» في مواجهة قوانين الأنديجينا سوى رفض التجنس المشروط بالتخلي عن قانون الأحوال الشخصية الإسلامي. وقد أصبحت المزاوجة بين مطلب المواطنة الكاملة ومطلب حرية ممارسة الديانة الإسلامية وتعليم العربية، أحد ثوابت الحركة الوطنية.
غير أن هذه السياسة الكولونيالية لا تفسّر وحدها هذا التشبث، فأحد عوامله الأخرى فشل الحركة الشيوعية في المزاوجة بين نظرة متفتحة للهويّة (نظرة لا تربطها بالجنس ولا بالديانة)، ومطلب الاستقلال السياسي عن فرنسا. فلو طالب الشيوعيون الجزائريون بدولة مستقلّة متعدّدة الأعراق والديانات، لربما تمخّض الاستقلال عن نظام سياسي لا يتّخذ الانتماء الثقافي الإسلامي للجزائر ذريعة لاستيحاء قوانين الأحوال الشخصية من الشريعة.
وخصّص رينيه غاليسو جزءاً كبيراً من كتابه لتاريخ الحركة العمالية والنقابية خلال الحقبة الاستعمارية، دارساً علاقتها بالحركة الوطنية، وخصوصاً شقّها الاستقلالي. كانت الحركة العمالية والنقابية إحدى الواصلات القليلة بين «الأهالي المسلمين» و«الأقدام السوداء»، أي أوروبيي الأصل. وكان الحزب الشيوعي أحد الفضاءات السياسية النادرة المختلطة، إلا أنه، تحت ضغط قرينه الفرنسي، رفض الالتحاق بالحركة الاستقلالية مكتفياً بالدعوة إلى «اتحاد الطبقات الكادحة في محاربة الاستغلال الرأسمالي». وباختصار، كما يقول رينيه غاليسو، فإنه «ضحّى بالمسألة القومية على مذبح صراع الطبقات»، بل وذهب إلى حد نعت مناضلي الاستقلال بـ«عملاء النازية».
ويعدّ تاريخ حزب الشعب الجزائري (الأب الرمزي لجبهة التحرير الوطني التي خاضت حرب الاستقلال في الخمسينيات) أنصع دليل على الشرخ الذي عرفته الجزائر المستعمرة بين المطلبين الاجتماعي والاستقلالي. وُلد هذا الحزب (تحت اسم نجم شمال إفريقيا) في أحضان الحزب الشيوعي الفرنسي، في منتصف العشرينيات، أي لما كانت مساندة الحركات التحرّرية أحد ثوابت الأمميّة الشيوعيّة. إلّا أنّ حرص الاتحاد السوفياتي على توطيد علاقاته مع فرنسا حليفته ضد النازية، دفع بالشيوعيّين الفرنسيّين إلى تكميم المناضلين العمّاليّين الجزائريّين المطالبين بالاستقلال. وكان ردّ فعل هؤلاء أن انفصلوا عن الحركة الشيوعية وأنشأوا في 1937 حزباً قومياً (حزب الشعب) جعل من هوية الجزائر العربية ــ الإسلامية أحد ثوابته الإيديولوجية، وإن احتفظ بالكثير من مراجعه السياسية العمالية.
ويستخلص رينيه غاليسو مما يسمّيه قبول الجزائر المستقلة بإرث قوانين الأنديجينا الرمزي ــ تحديد الهوية بالانتماء الديني ــ فشل مشروع المواطنة الحديثة، فيقول في خاتمة الكتاب: «نلاحظ في تاريخ النزاعات التي تلت الفترة الاستعمارية الشروخ نفسها التي ميزت هذه الفترة عينها. من هذا المنظور فإن تصفية الاستعمار لم تتم بعد بصفة نهائية».
* صحافي جزائري



العنوان الأصلي
algérie colonisée
algérie algérienne
الكاتب:
رينيه غاليسو
الناشر
بارزاخ