strong>يحيى فكري*
صدرت على مرّ الأسابيع القليلة الماضية، سلسلة من التقارير والتصريحات، عن مؤسّسات ومسؤولين غربيّين تتعلّق بالأحوال في مصر، وجميعها، بطريقة أو بأخرى، كانت توجّه سهام النقد إلى النظام المصري على استبداده وفشله في تحقيق أي خطوة حقيقيّة على طريق الإصلاح الديموقراطي. ففي الأسبوع الأخير من أيلول الماضي، أعلنت المتحدّثة باسم البيت الأبيض دانا بيرينو، أنّ «أحكام السجن التي صدرت بحقّ الصحافيّين المصريّين هي انتكاسة لحرية الصحافة والمجتمع المدني في مصر». وردّت الخارجية المصرية مباشرة على تلك التصريحات الصحافية بأنها تعكس خلطاً في الأمور، وأنّ مصر لا تقبل التدخل في سياساتها!
وبعد تصريحات البيت الأبيض، وخلال الأيام الأخيرة من الشهر نفسه حتّى الأسبوع الأول من تشرين الأول الجاري، هاجمت كل من صحف «واشنطن بوست» و«نيويورك تايمز» و«شيكاغو تريبيون» ـ في مقالات متعدّدة لعدد من أهمّ كتابها ـ «استبداد» النظام المصري، مستشهدة بالمحاكمات العسكرية للإخوان المسلمين، وأحكام الحبس التي صدرت بحقّ رؤساء تحرير الصحف المستقلّة. كما وجّهت نقداً للإدارة الأميركية للتعامل بليونة مع مبارك ونظامه، وتغاضيها عن ممارساته، وتواطؤها معه بسبب مصالحها في المنطقة.
بينما صدرت تباعاً خلال الفترة تفسها سلسلة من التقارير، عن عدّة مؤسّسات مرتبطة بالإدارة الأميركيّة والدوائر الغربية عموماً تسجّل جميعها نقداً حادّاً على «الاستبداد السياسي» في مصر. كان آخر تلك الملاحظات تقرير «مؤشّر حرية الرأي البريطاني» الذي رأى أنّ هدف الإجراءات القمعية الأخيرة في مصر هو دعم نظام مبارك المريض، إلى جانب التقرير الذي أصدرته اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لدول غرب آسيا «الاسكوا»، الذي وصف طبيعة الحكم في مصر بأنه يتّسم بالانفراد في صناعة القرارات، وانعدام إمكان تداول السلطة. بالإضافة إلى ذلك، أصدرت «فريدم هاوس» الأميركية التقرير الخاص عن مصر، الذي أكّد بناءً على مؤشّرات عديدة، الانتهاك المنظَّم والدائم للحريات والحقوق السياسية في مصر، وغياب أي فرصة للتغيير من خلال إرادة الناخبين، بسبب القوانين والأدوات الانتخابية الموظّفة لخدمة سلطة مبارك ونظامه.
ويبدو لافتاً بعض الشيء عودة حملة الهجوم في الصحافة الأميركية على مبارك ونظامه، والاهتمام بإصدار التقارير التي تسجّل وتفضح مظاهر قمعه واستبداده. فقد صمت الإعلام الغربي القريب من دوائر المحافظين الجدد عن مبارك لما يقرب من عامين، وتحديداً بعد النجاح الملحوظ للإخوان المسلمين في الانتخابات التشريعية الأخيرة في مصر، وفوز حركة «حماس» الساحق في الانتخابات الفلسطينيّة الأخيرة. ساعتها، اكتشفت الإدارة الأميركية أنّ الرياح لا تأتي بما تشتهي سفنها، وأنّ ضغوطها من أجل الإصلاح السياسي ستأتي بالقوى التي ترى أنها معادية لها. فالشعوب العربية باتت ترى اليوم الإدارة الأميركية عدوّها الرئيسي، بسبب ما يحدث في العراق وفلسطين ولبنان. لهذه الأسباب، توقّفوا عن ضغوطهم على مبارك، التي بدأت مع صعود المحافظين الجدد عام 2001، وحتى قبل أن يتولّى بوش السلطة رسميّاً، عندما سارع أفراد طاقمه بعد إعلان فوزه بإطلاق سهام نقدهم على نظام مبارك بصفته مسؤولاً ـ من وجهة نظرهم ـ عن انتشار العداء للإمبريالية في مصر والعالم العربي بسبب فشله في خطط «الإصلاح».
وهكذا مثلاً، صاغت كوندوليزا رايس، نقدها لسياسة الإدارة السابقة تجاه الشرق الأوسط، حيث أعلنت أن بيل كلينتون ورّط أميركا في محاولة الوصول إلى حلّ سلمي للصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي، الذي كانت تراه صراعاً غير ناضج للحلّ، بينما مشكلة أميركا الحقيقية في المنطقة هي ردود الفعل الشعبية المعادية لها في بلاد مثل مصر والسعودية. وكان على أميركا ـ من وجهة نظرها وقتها ـ أن تسعى إلى تغيير الأوضاع هناك حتّى تمتصّ موجة العداء، وتتيح لإسرائيل الفرصة في أن تفعل ما بدا لها مناسباً مع الفلسطينيّين، إلى أن تخلق شروطاً ممكنة للحلّ في المستقبل.
لكن ما حدث بعد ذلك كشف لإدارة بوش أنّ غياب مبارك عن السلطة سوف يعزّز بالضرورة الاتجاهات المعادية للسياسة الأميركية، وأنّ أي تطوّر ديموقراطي حقيقي في مصر، سينجم عنه مباشرة تهديد للمصالح الأميركية في المنطقة. وهكذا توقّفت عن ضغوطها وحملاتها عليه. وربما يكون السبب وراء عودة الهجوم هو مؤتمر «السلام» المزمع عقده في تشرين الثاني المقبل.
فصحيح أنّ النظام المصري لم يعد يملك اليوم أيّ قدرة على المناورة مع الإدارة الأميركية، بما يجعلها في حاجة إلى الضغط عليه مجدّداً، لكن يبدو أنّ ما هو مطلوب تقديمه في ذلك المؤتمر المقبل، سواء من مبارك أو من أبو مازن، يتجاوز الخطوط الحمراء المتَّفق عليها مسبقاً كحدود للضغط: التنازل عن حدود العام 1967، والتنازل عن حقّ العودة، والتنازل عن القدس، في مقابل خطوات غير مضمونة في اتجاه إعلان الدولة الفلسطينية.
وفي الوقت الذي أعلنت فيه كلّ من السعودية وسوريا رفضهما المشاركة في المؤتمر من دون شروط واضحة مسبَقة، صرّح وزير الخارجية المصري أحمد أبو الغيط، أنّ مصر ستشارك رغم تحفّظها على الشروط التي سينعقد بها.
ومع مصر، سيذهب أبو مازن بالطبع، فهو الورقة الوحيدة التي تملكها الدبلوماسية المصرية اليوم. ولأنّ التنازلات المطلوبة هذه المرّة تمسّ ثوابت رئيسيّة، فمن المفيد بالتأكيد أن يجري التحضير لذلك بحملة هجوم جديدة تذكّر مبارك ورجاله أنّهم يقفون على حدّ السيف، وأنّ بقاءهم على مقاعد السلطة في مصر مرهون برضى السادة في البيت الأبيض.
* صحافي مصري