strong> موريس نهرا *
في مقالته المنشورة في الصفحة الأخيرة من صحيفة «الأخبار» في 20 تشرين الأول الجاري، يطرح الأستاذ أنسي الحاج بعض الأفكار والتساؤلات يتمحور معظمها حول علاقة الحزب الشيوعي اللبناني و«تحالفه» مع «الأصوليّين»، والمقصود حزب الله، ويستند فيها إلى ما يشرح باختصار الأستاذ وسام سعادة في «السفير» (والقول للكاتب)، ما يقتضي ردّاً توضيحياً كما قال كاتب المقالة نفسه، نحصره بالتساؤلات الأساسية ونلخّصه بما يلي:
أوّلاً، بالنسبة إلى المقطع الأوّل الذي جاء فيه «كيف يكون شعار المقاومة هو ما ينضوي تحته المسلم المتمسّك بالدين والمجاهد في سبيل الله، والمادّي الملحد المؤمن بحتميّة التاريخ والمتحدّر من ثقافة فلسفية وأدبية وتاريخية واقتصادية وسياسية هي بالجملة والمفرّق نقيض ما يقوم عليه الإسلام».
لا بدّ من التأكيد أنّ الشيوعيّين اللبنانيّين لم يكونوا يوماً، لا ماضياً ولا حاضراً، في موقع الخصومة والعداء أو القطيعة مع المؤمنين إلى أيّ دين انتموا... كما، وبالأساس، لم يكن الانتماء إلى الحزب الشيوعي منذ تأسّس عام 1924 وحتى اليوم، مرتبطاً بشرط الإلحاد أو الإيمان، فهذا الأمر يتعلّق بدواخل الإنسان الفرد وقناعاته وحريّته، والمعيار الأساسي للانتماء إلى هذا الحزب، هو الموافقة على برنامجه السياسي الذي يحدّد توجّه الحزب وأهدافه التغييريّة المرحليّة على طريق تحقيق هدفه الاستراتيجي، ورسم سياسته في ضوء ذلك، كما والموافقة على النظام الداخلي الذي تتحدّد على أساسه الحياة الداخلية للحزب وعمل هيئاته ومنظّماته والعلاقة في ما بينها.
لذلك ليس أمراً مستغرباً أن تجمع مقاومة الاحتلال الصهيوني ومواجهة المخطّط الأميركي المبني على التحالف الاستراتيجي مع إسرائيل ضدّ شعبنا وشعوب منطقتنا، بين الشيوعيّين وحزب الله وغيرهما من مواطنين وقوى وتيّارات ذات مشارب فكرية متنوّعة. ولعلّ العكس هو المستغرَب، وخصوصاً أن الشيوعيّين، وكذلك جمهور الأصوليّين المقاومين، يمتلكون مشاعر وطنيّة ليس أقلّ من غيرهم إن لم يكن أكثر، وقد عاشوا ويعيشون حالة قلق ومعاناة وحرمان بالنسبة إلى ظروف حياتهم ومعيشتهم الاجتماعية مثلهم مثل أبناء الطبقات الشعبيّة والكادحة الأخرى من جهة، وحالة قلق ومعاناة ناجمة عن الأخطار وتحدّيات واعتداءات إسرائيل ومطامعها التوسّعية في مياهنا وأرضنا، في ظلّ عدم قيام سلطة النظام الطائفي بتوفير موجبات حماية الوطن، من جهة أخرى، ما استدعى وجود المقاومة للقيام بالدور الدفاعي والتحريري.
وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ التلاقي في العمل النضالي والمشترك بين الشيوعيّين وقوى وتيارات أخرى متعدّدة في بلدان ومراحل معيّنة بينها تيّارات داخل الكنيسة الأرثوذكسية والكاثوليكيّة، ليس جديداً، سواء في مجال القضية الوطنية ومقاومة الاحتلال النازي، كما حصل مثلاً في فرنسا أو في يوغوسلافيا أو اليونان وغيرها في الحرب العالمية الثانية، أو في الدفاع عن حرية الإنسان وحقه في العيش الكريم وعن الحقوق الاجتماعية للطبقات الشعبية والفقيرة، وتوفير شروط وضمانات حياتها ومستقبل أبنائها، كما جرى بين التيّار الديني المتبنّي «لاهوت التحرير» والشيوعيّين واليساريّين في العديد من بلدان أميركا اللاتينية بخاصة.
ثانياً، أمّا مسألة أنّ الأصوليّة تقاوم الغرب وإسرائيل، والماركسية غربيّة مشبعَة بالفكر الألماني والفرنسي والبريطاني، فأيّ قاسم يجمع بين عالمين متناقضين كهذين؟ إنّ هذا المفهوم للصراع الجاري لا ينمّ عن إدراك أسباب هذا الصراع الحقيقي التي تكمن في طبيعة النظام الرأسمالي الاحتكاري، الذي يستغلّ شعب البلد نفسه، ويسعى دائماً لاستغلال ثروات شعوب أخرى ونهبها من طريق استتباعها وإخضاعها لسيطرته، بالتآمر والعدوان والحرب. والصراع هذا ليس بين شعوب وحضارات، بل إنّه في جوهره صراع تلتقي فيه الشعوب موضوعياً في جبهة التحرّر والحرية، وتشكّل سلطة الشركات الاحتكارية الضخمة المعولَمة والأقوى اليوم، جبهة أخرى تمثّل نهج الاستغلال الجشع والنهب والعدوان ضدّ الشعوب... فعداؤنا للمخطّط الأميركي العدواني مثلاً، ليس عداءً للشعب وللمواطن الأميركي. أمّا النظرة إلى الفكرة التي تعتبر الماركسيّة فكراً غربيّاً، فهي لا ترى إلى جوهر الفكر، بل إلى جنسيّة مَن وضعه أو ارتبط باسمه، وعلى أساس الربط الميكانيكي بين الفكر والجغرافيا، علماً بأنّ تاريخ الفكر البشري يؤكّد أنّ الفكر لا يمكن حدّه بتخوم جغرافيّة، وأنّ رؤية الخاص فيه المتعلّق بواقع محلّي ملموس، لا تطمس ولا تلغي الجوهر العام لهذا الفكر وطابعه الإنساني الشامل الذي يزداد اليوم شمولاً مع التطوّر العلمي والتكنولوجي الذي جعل العالم بأسره أكثر تداخلاً وتقارباً من أيّ وقت مضى. وعلى كلّ حال، رحم الله الذين كانوا يروّجون لمقولة الفكر المستورَد، لأغراض سياسية لا تخفى على أحد.
من البديهي القول إن تطوّر الفكر والعلوم الذي هو في أساس تقدّم البشرية، لا لون له ولا عرق ولا طائفة... والماركسية فكراً، تستند إلى ما سبقها من تطوّر وإنجازات واكتشافات علميّة ومعرفيّة سواء في شرق العالم أو في غربه... ألم تكن حركة القرامطة الإصلاحية الجذرية في نظرتها إلى الثورة والعدالة ومساواة المرأة بالرجل، التي ولدت في منطقتنا، قبل أكثر من ألف عام، جزءاً من تراثنا الفكري وتاريخنا وتراث الفكر البشري؟ وهل يمكن إغفال أن العرب الذين بلغوا في مرحلة معيّنة قمّة فكرية وحضارية، قد نقلوا ما وصلوا إليه إلى أوروبا التي كانت تغرق في ظلام القرون الوسطى، فشكّل ذلك إسهاماً عظيماً في مسيرة التطوّر الفكري والحضاري للمجتمع البشري؟ أوليست قيم الأديان الإنسانية والاجتماعية والأخلاقية، ونشدانها العدالة والحق والإخاء والمساواة بين الناس ورفض الظلم وقهر الإنسان، هي أيضاً رسالة وفكر يحمل طابعاً عالميّاً؟ لذلك فالماركسية ليست غريبة بالمعنى الرامي إلى اعتبارها متناقضة مع فكر آخر، سواء أكان هذا الفكر في الشرق أم الغرب، ولولا ذلك لما انتشرت في الصين وفيتنام وفي أميركا اللاتينية التي تشهد نهوضاً فكرياً ونضالياً يسارياً ووطنياً بارزاً... والمضمون السياسي والاجتماعي الأساسي لهذا الفكر التغييري يقوم على اعتبار أن النضال لزوال التناقض التناحري بين الطبقات داخل المجتمع يزيل التناحر بين الأمم... وينطبق مع هذا المفهوم اعتبار كلّ نضال تحرّري وطني وقومي ضدّ العدوان والاحتلال، ومن أجل التحرّر الاجتماعي، هو في الواقع الموضوعي جزء من المسيرة النضالية العامّة والمشتركة لتحرّر الشعوب وتقدّمها في مختلف البلدان والقارات.
ثالثاً، بشأن التحالفات، يقتضي التأكيد على أنّ مفهوم التحالف كما يمارسه الحزب الشيوعي اليوم، لا يحتّم التطابق الفكري بين المتحالفين أو المتقاطعين... فالمعيار الفكري والإيديولوجي مهمّ جداً، لكن الذي لا يقلّ أهمية عنه هو تجلّي هذا الفكر في الحيّز السياسي المرتبط بقضايا ومواقف مباشرة يقتضيها الواقع الوطني أو الاجتماعي الملموس أو الاثنين معاً، وإلّا يبقَ الفكر فكراً محضاً مجرّداً ومنفصلاً عن حركة الواقع وغير فاعل ومتفاعل معها.
وفي خصوصيّة مجتمعنا وبلدنا الذي تتعدّد فيه الانتماءات الدينية والطائفية والسياسية أيضاً، ويجري فيه إلى حدّ كبير التداخل بين الوطني والطائفي وبين الطائفي والوطني والقومي، وتترابط فيه عوامل الصراع الداخلي بالإقليمي والدولي، كما يبرز الآن بصورة فاقعة، يصبح موضوع التحالف، في هذا الوضع على الأقلّ، أمراً دقيقاً يستدعي مجانيّة التبسيط والاكتفاء بالأولويّة اللحظويّة على أهمية رؤيتها. فأسس التحالف هنا تصبح وثيقة الارتباط بنوع القضايا المترابطة وأهميتها وبالتحديات التي يواجهها وطننا وشعبنا وبالمهام الضرورية التي تمكّنه من الخروج من دوّامة الأزمات المتكرّرة... وفي ضوء ذلك، يبرز هنا التقاطع بين حزبين مقاومين هما الشيوعي وحزب الله على قاعدة التلاقي في موضوع المقاومة وتحرير الوطن وحمايته ضدّ الاحتلال والعدوان. وهذه قضية وطنيّة هامّة وأساسيّة، لكنها ليست كافية لوحدها كي تتحوّل إلى تحالف، فمن شروط تحقّق الارتقاء إلى ذلك، التلاقي على برنامج إصلاحي يبدأ من تنفيذ المداخل الإصلاحية التي أُقرَّت في اتفاق الطائف كسبيل لبناء دولة ديموقراطية لا طائفية ووطن واحد على قاعدة صلبة، وأصبحت نصّاً دستورياً، وأيضاً لكي لا تبقى انتصارات المقاومة الكبيرة في بعديها الوطني والقومي والإقليمي، والتضحيات والبطولات الأسطورية للمقاومين، موضع تناقض وخلافات داخلية، تنجم عن صلب النظام الطائفي القائم وسلطته وتتغذى منه، وتجعل هذه الانتصارات معرّضة للضياع، وتبقي لبنان ساحة مكشوفة للتدخّلات الخارجية التي تجد في التناقضات والانقسامات الطائفية والمذهبية مدخلاً رحباً لها...
ولكون قضيّة تحرير الوطن والتصدّي للعدوان الإسرائيلي والمخطّطات الأميركيّة العدائية، هي الأساس للتقاطع بين الشيوعي وحزب الله المختلفين في خلفيتهما الفكرية، فلا حاجة، بالنسبة إلى الحزب الشيوعي، إلى مفتاح سوري أو غير سوري يجمع بين الطرفين، في موضوع المقاومة. وإنّ استقلالية الحزب الشيوعي الذي جعلته يدفع ثمناً فادحاً من قياداته وكوادره، يحرص اليوم كما من قبل عليها ويجسّدها في مواقفه انطلاقاً من رؤيته إلى المصالح الوطنية والديموقراطية والاجتماعية لشعبنا اللبناني، وفي ضوء الأخطار المحدقة بالمنطقة ومنها لبنان وسوريا، والسعي لتلاقي وتعزيز دور جميع القوى الرافضة لمخطّط السيطرة عليها وإفشال أهدافه. وبقدر ما لا يقبل الحزب أي نمط من التبعية والهيمنة السورية على لبنان، فإنه بالقدر نفسه يحرص على إقامة علاقة سليمة بين البلدين الشقيقين على قاعدة احترام استقلال وسيادة وخصوصيات كل منهما، رافضاً مواقف العداء والتحريض ضدّ سوريا، لأن سياسة العداء تضرّ بالبلدين معاً وبالدرجة الأولى بلبنان.
إن هذا التقاطع بين الشيوعي وحزب الله، لا يرمي الحزب الشيوعي من ورائه استخدامه لغاية محدّدة مؤقّتة ومضمَرة، وهو ينبثق من ضرورات وطنية يلتقي عليها الطرفان. والمهم هنا التأكيد أن مفهومنا للتقاطع أو «التحالف» في قضية أو حتى أكثر، لا يستلزم طمس أو إلغاء قضايا أخرى خلافية، وخصوصاً المتعلّق منها بشؤون وطنية وديموقراطية واجتماعية أساسية. وفهمنا للتقاطع، وحتى التحالف، يقع في إطار ألّا يكون التقاطع تبعية ولا التمايز عداء... قد تكون التجربة بين هذين النوعين من الأحزاب جديدة في بلدنا وعالمنا العربي، لكنها مهمّة كمثال للتلاقي في مواقع النضال العملي ضدّ الاحتلال والعدوان الخارجي، وجديرة بالاهتمام والعناية والتفاعل والنجاح لمصلحة وطننا ولتحقيق نهوض شعبي تحرّري ديموقراطي جديد في منطقتنا.

* رئيس المجلس الوطني في الحزب الشيوعي اللبناني