عزمي بشارة
موسم الكذب

وكأن أميركا تجهل فداحة الأكاذيب التي روجتها عن العراق، وكأنه لم ينفضح فعل الخداع وفعل الشائعات التي نشرت عن سلاح الدمار الشامل بواسطة الإثارة الإعلامية وسلاح الخداع الشامل، فعادت أميركا تتحدث عن صواريخ إيرانية سوف يصل مداها خلال أقل من ثمانية أعوام إلى الولايات المتحدة نفسها، وقد تحمل في حينه روؤساً نووية، وأنه قد تزود إيران حزب الله بهذه الأسلحة، «ومن المعروف أن (خذ نفس عزيزي القارئ...) لحزب الله خلايا نائمة في الولايات المتحدة»، وقس على ذلك.
يخطئ من يعتقد أن أميركا وحلفاءها قد تعلموا الدرس من فصل الأكاذيب الآنف الذكر، فلا درس أصلاً ليتعلموه. ولا أساس أصلاً للافتراض المنتشر بأن السياسة الأميركية أو الأوروبية كانت مخدوعة بتقارير أجهزتها الأمنية. والحقيقة أن المؤسسة الأميركية السياسية التي روجت المعلومات الخاطئة، بما فيها السياسيون والإعلام، كانت تدرك من اللحظة الأولى أنها تكذب، وأن الكذب هو أداة من أجل هدفٍ سامٍ هو التخلص من النظام العراقي. والأكاذيب التي تنشر حالياً عن إيران تكرر تفنيد التواصل العقلاني (على قول هابرماس) لحضارة المشهد الغربية، وكأننا إزاء فيلم بالعنوان نفسه مع إضافة الرقم 2. وفي الفيلم رقم 2 يُحذف كل ما لم يعجب الجمهور في الفيلم رقم 1 ويُضخّم كل ما أعجبه وألهب خياله وسبى عقله.
وكانت جولة أولمرت الأخيرة في أوروبا مساهمة في إدارة رحى الحرب على إيران. وهي تُلَخَّص في إسرائيل بكونها اتفاقاً على فرصة أخيرة للمساعي الدبلوماسية وتشديد العقوبات، لا بد من أن يعقبها، إذا لم تحقق المرتجى منها، تأييد دول أوروبية رئيسية مثل فرنسا وبريطانيا لعمل عسكري ضد إيران.
ولا شك أن رؤيا بوش اللاهوتي «الأرمجدونية» ونبوءاته التوراتية بخطر حرب عالمية ثالثة إذا ما حصلت إيران على السلاح النووي، لا تفسح مجالاً لسماع تفنيد البرادعي الذي بات موضع سخرية أولمرت في باريس، ولا إنكار إيران لرغبتها في الحصول عليه. ويكملها وصف رايس إيران بالـ«الخطر الأساسي» على الأمن القومي الأميركي حالياً، لا أكثر ولا أقل. وكلها من نوع تصميم صورة إيران في المشهد كشرير مناوب على تخوم الإمبراطورية. وهي تجسد الشر المستطير الذي يبرر المجهود القومي ضده أية أكاذيب تروى. وهي تروى، وسوف تروى وتتكور وتتضخم مثل كرة ثلجية متدحرجة. وربما يجري التنافس على إدانة هذه الأكاذيب في صحوة عامة منها بعد الضربة ثم الضربة المضادة. وسوف تكون الصحوة بحجم الضربة المضادة.
ومن نافل القول أن إسرائيل التي لا يحرج بعض العرب في هذه الحالة من الوجود معها على الجانب نفسه من المتراس، ليست دولة في حالة انتظار. ولن يكون هذا هو حالها أثناء المواجهة، كما كانت عندما شنت أميركا الحرب على العراق، بل هي تعد لردع القوى المحيطة عن المشاركة في الضربة المضادة، أو تعد لضربة وقائية لا تنتظر مشاركتها، وبكلمات أخرى حرب أو عدوان على من حولها، يعتمد هذا على اتخاذ القرار الأميركي بتحويل سياسة المواجهة القائمة حالياً الى حرب. وكل ما يبدو وكأنه إعداد إسرائيلي منفرد للحرب هو في واقع الحال جزء من هذه السياسة الشاملة.



ساركوزي ومعجزة القرن

ليس صعباً أن نقرر سبب نشوة أولمرت بعد اجتماعه مع ساركوزي. فبإمكانه أن يختار سبب النشوة من التماهي التام في الموقف من إيران واعتبار ساركوزي أمن إسرائيل خطاً أحمر وحتى وصف إسرائيل نفسها بمعجزة وقيامها بأهم حدث في القرن العشرين. هذه المرة بزّ ساركوزي حتى نفسه، وتفوق على ذاته، إذ جرف تيار الألفاظ الخارجة وعيه الباطني.
ربما كان قيام إسرائيل من لا شيء واستمرارها معجزة فعلاً، ومصدر معجزة بالعربية خلافاً للفرنسية هو من عجز، وجذر المعجزة الإسرائيلية هو العجز العربي. وكما أجاب موشي ديان عندما سئل خلال زيارة لفيتنام الجنوبية عن هذه المعجزة: «يساعد المرء أن يكون العرب أعداءه». ومع كل الاحترام للإعجاز الإسرائيلي العربي، لا يمكن قراءة قيام إسرائيل كأهم حدث في القرن العشرين، إلا عند من يرون المسألة اليهودية مركز العالم والتاريخ. وهو بالطبع لا يقصد أن يقول أهم حدث كارثي في القرن العشرين، بل أهم حدث سعيد، بما فيه من نكبات عربية. وتعبّر عن نفسها هنا لاسامية مقلوبة، يجمعها مع اللاسامية أن اليهودية في الحالتين هي مركز الكون.
تكمن المصيبة عند أمثال ساركوزي من اليمين الجديد في توافر علاقة سببية بين التماهي مع إسرائيل في الموقف من أعدائها وبين اعتبار قيام إسرائيل الحدث الأهم في القرن العشرين. والأرجح أن هذا دافعه للتماهي مع الموقف الإسرائيلي من إيران.
كان المحافظون اليمينيون الأوروبيون في الماضي متحفظين من إبداء الإعجاب الزائد بالمغامرة الصهيونية في الشرق. وربما رأوا وجهها الإيجابي الوحيد في إراحة أوروبا من تبعات المسألة اليهودية التي أخرجت من الحضارة الغربية أقبح ما فيها من عنصرية ونازية، وفي تصدير الإشكال برمته شرقاً. وربما ارتاحوا أيضاً، وخاصة بعد عام 1967، لفعالية هذه الأداة ضد القومية العربية التي وقفوا منها أصلاً موقفاً تشكيكياً معادياً. فقد هددت حلفاءهم التقليديين التابعين في الشرق، وهددت صورتهم الذهنية والحضارية عن الشرق المراوح بين التخلف المخيف والتخلف الساحر.
اليسار الليبرالي الغربي هو الذي وقف من إسرائيل موقفاً لاعقلانياً يصل حد اعتبارها معجزة. وقد كان مدفوعاً تارة باستثارة تأنيب الضمير الجماعي لأسباب داخلية سياسية وثقافية، وطوراً بمركزانية أوروبية اعتبرت الصهيونية تقدمية قياساً بالتخلف العربي، وثالثة بدعم اشتراكية ونقابية وعمالية الحركة الصهيونية في بداياتها، ورابعة بقرب رموزه من المسألة اليهودية قرابة حرفية، بالمعنى الشرقي للقرابة. ولا ننسى طبعاً أن جزءاً كبيراً من اليساريين من أصل يهودي في أوروبا تحرروا من مثل هذه القرابة إلى مواقف معادية للصهيونية وإسرائيل.
يأخذ اليمين الجديد عن اليسار الأوروبي الخفيف، إضافة إلى حب إسرائيل، مزايا عديدة تساعده في التفوق على اليمين القديم المحافظ في مواجهة تحدي عالم ما بعد الحداثة، وتعزز موقعه ضد اليسار نفسه، وذلك بالجمع بين مواقف يمينية في جوهرها وخطاب يساري، وخاصة في قضايا اللياقة السياسية وسياسات تمثيل الهوية. فسياسة ساركوزي المعادية للأجانب الفقراء في فرنسا هي التي تتقن أيضاً التغطي بتعيين نساء من أصل عربي شمال إفريقي في حكومته، وتجلب كوشنير بأسلوبه غير الرسمي والمتكلف لعدم التكليف إلى درجة التهريج ليطرح سياسته الخارجية اليمينية المحافظة.
لغة الأرقام في الموازنة الإسرائيلية

لم تستعرض الصحف الإسرائيلية حتى اليوم اقتراح الموازنة لعام 2008 الموجود على طاولة النواب. ومن أهم ما تقوله لغة الأرقام أن السلام كلام. فالسياسة التي تفشيها لغة الأرقام هي سياسة حرب. بعد حديث متواصل دام عشر سنوات عن تقليص موازنة الأمن الإسرائيلية، وبعد تقليصات فعلية في هذه الموازنة، يتبين فجأة أن توصيات لجنة بروديت، التي طالما رفضت، باتت تطبق بالتقسيط، وأن هنالك ارتفاعاً في بنود عديدة، جزء منها من دروس حرب لبنان، وجزء آخر تصعيدي.... والحديث الآن في اقتراح الموازنة هو عن زيادة 100 مليار شيكل في الموازنة العسكرية للسنوات العشر المقبلة، أي بمعدل زيادة سنوية مقدارها 2.2 مليار دولار، يفترض أن يأتي ثلثها من الولايات المتحدة، وهذا المبلغ هو غير الثلاثين ملياراً للعشر سنوات المقبلة التي وعدت بها رايس في جولتها قبل شهرين كأنها «سانتا كلوز» السلاح في المنطقة. فالثلاثون ملياراً التي جرى الحديث عنها في حينه هي المساعدة الأمنية «العادية» لإسرائيل.



المؤتمر الفلسطيني

إزاء أزمة المشروع الوطني الفلسطيني تبرز الحاجة إلى جمع شمل القوى الفلسطينية التي لم تقع في سبي «عملية السلام» كدائرة علاقات عامة لسياسات المواجهة الأميركية في المنطقة. هذه حاجة معنوية فلسطينية حتى قبل أن يؤمل لها أن تتحول الى قوة سياسية.
وإزاء تصعيد الخطوات الإسرائيلية التي تهدف الى تضييق الخناق وتشديد الحصار على غزة ليشمل قطع الكهرباء والوقود تدريجاً، والتفنن في طرح الأفكار المتعلقة بالسبل الأكثر ملاءمة لكسر إرادة سكان القطاع، لا بد من جمع القوى الفلسطينية في ما يتجاوز تقسيم «آخِر زمن» للفلسطينيين بين الضفة والقطاع. فما يجري في القطاع هو مأساة للشعب الفلسطيني، إضافة إلى جرحه المفتوح المتمثل بقضية القدس والشتات. وعندما يتألم سكان غزة يجب أن يصرخ كل الشعب الفلسطيني معهم، وأن يُستصرَخ الرأي العام العربي. لا يجوز أن تستفرد إسرائيل بملايين البشر من سكان القطاع في قلب العالم العربي فتحاصرهم إلى درجة قطع المواد الخام والكهرباء. وما عدا البطالة والحصار ومنع الناس من السفر للدراسة أو العلاج أو العمل، وخراب الزراعة والصناعة في غزة، بلغت الصفاقة الإسرائيلية حد العبثية. ففي مناقشات علنية يقترح مسؤولون قطع الكهرباء في الساعات التي ترتفع فيها نسب المشاهدة التلفزيونية لتحقيق أعلى درجة إزعاج للسكان. تتصرف إسرائيل باسترخاء في حصارها للقطاع. هل يجوز أن يبقى الشارع الفلسطيني والعربي صامتاً إزاء ذلك؟ لقد آن أوان الاحتجاج الفعلي. أكتب ذلك مع علمي ان التفجر الجماهيري وارد إذا فشل اجتماع أنابوليس. ولكنهم سوف يغطون الفشل ويتسترون عليه بالكلام والبيانات. ولا بد من التحرك منذ الآن للتضامن مع غزة، فهي ليست حظيرة تحت تصرف إيهود باراك.
ليس المؤتمر الفلسطيني اقتراحاً سورياً، بل هو اقتراح فلسطيني لتظاهرة كبرى على مستوى ممثلي الرأي العام الفلسطيني لتأكيد الثوابت الفلسطينية في وجه مؤتمر أنابوليس. وعندما سئلت سوريا عن رأيها وطلب إذنها لاستضافة المؤتمر اقترحت أن يعقد المؤتمر بعد اجتماع أنابوليس، أي بعد أن تتضح نتائجه. ولكن المبادرين لم يأخذوا بهذا الرأي وأصروا على عقد المؤتمر قبل اجتماع بوش. وكل ما كان مطلوباً من سوريا هو الإذن بعقد المؤتمر، وهي لم تقنع أحداً بأن يشارك أو يتغيب.
ومعيار نجاح المؤتمر قدرته على اجتذاب أوسع الأوساط الفلسطينية المصرة على عناصر العدالة في أية تسوية، وعلى رأسها حق العودة والقدس، وفي صياغة الموقف صياغة إيجابية مسؤولة بعيداً من المزايدة الخطابية التي تتولد عند اجتماع من يتفقون على الموقف فيسعى بعضهم الى التمايز والتميز بتصعيد النبرة. والمهم أن يتجاوز اتساع المشاركة مسألة الانقسام بين الرئاسة والمجلس التشريعي وبين فتح وحماس. ولن يتم هذا إلا بإشراك أكبر عدد ممكن من الفصائل الفلسطينية والتنظيمات المجتمعية والشخصيات المستقلة والكتّاب والأدباء وصناع الرأي العام في تجاوز مقصود للاستقطاب الحاصل بفعل السياسة. ويعني هذا تجنب أية مواجهة مع حركة فتح كحركة. فهي ليست المستهدفة بالمعارضة بل القوى السياسية المتورطة التي باتت رهينة التسوية. ولا بد من محاولة إشراك أطراف من حركة فتح نفسها في عملية التأكيد لهذه
الثوابت.
وأخيراً يجب أن يكون الهدف هو إعادة بناء منظمة التحرير. فالجدية في هذا الهدف هي مؤشر جدية المؤتمرين ليس فقط في تجنب شق جديد في حركة التحرر الفلسطينية، بل في الدعوة لإعادة بنائها لتشمل القوى السياسية التي بقيت خارجها مثل حماس والجهاد الإسلامي.