هيفاء زنكنة *
كأنّ تأسيس ستة آلاف منظّمة مجتمع مدني، من بينها 2000 منظّمة نسويّة وهميّة، قبيل انتخابات 2005 في العراق المحتلّ لا يكفي، فأعلنت مجموعة من نساء برلمان الاحتلال عن تأليف «الكتلة النسوية في البرلمان». وتمّ إعلان ولادة الكتلة على يد رئيس البرلمان محمود المشهداني يوم 23 أيلول الماضي، الذي وصف الحدث السعيد بأنّه «يوم تاريخي»، وتحدّث عن الكتلة قائلاً إنّها «تضمّ جميع السيدات في البرلمان وتؤكّد على العمل المشترك وتقريب وجهات النظر المختلفة بين المكوّنات السياسيّة ودعم المواقف الموحّدة وتفعيل دور المرأة في صنع القرار السياسي».
وقبل أن يصفّق أحد للمبادرة النسائية هذه، عليه النظر للإطار الذي تتمّ فيه، أي ظروف العام الخامس من الاحتلال وما جلبه على المرأة العراقية من إبادة وتهجير وفسادٍ مستشرٍ، وكذلك تاريخ وارتباط هذا العمل بالوطن الأم: أميركا، ومنظّماتها المدنيّة.
ولنبدأ بتساؤل بسيط عن سبب فشل النائبات في تحقيق الأهداف طيلة الأعوام الماضية، وهنّ في صلب «العملية السياسية الديموقراطية»، وكيف سينجحن في تحقيقها مستقبلاً؟ إنّ الجواب المعلَن من النائبات عن السؤال الأوّل يبيّن أنّ الفشل «نتيجة لحالة السيطرة الذكورية السائدة في البرلمان» حسب تصريح النائبة سميرة الموسوي أو «بروز حالة السيطرة الذكورية من أعضاء البرلمان» حسب النائبة صفية السهيل. وتُرك السؤال الثاني معلّقاً بلا جواب.
أمّا أهداف الكتلة، فإنّها، بحسب ألاء الطالباني، «لتفعيل دور المرأة في البرلمان واختيارها للمشاركة في المؤتمرات الخارجية». وقالت الموسوي إنّ «من بين الأسباب التي دعت إلى تأليف هذه الكتلة هو ضياع دور المرأة داخل البرلمان، فيما باتت آراء النساء خاضعة لسياسات الكتلة المنتميات إليها». وأضافت السهيل، «لتحقيق ملفّات عجزت السلطة التشريعية والتنفيذية عن تحقيقها، ومنها المصالحة الوطنية وإزالة حالة الركود السياسي التي تعصف بالبلاد». وتشير تلاعبات النائبات إلى أنّهن اكتسبن خبرة اللعبة البرلمانية وإلى استغفالهنّ للمواطنين باكتشاف مهمّات وجوانب جديدة يثرن حولها الجدل من إخفاء أوليات الحياة اليومية الكارثية ولاستباحة الوطن بأكمله.
وقد تكون هذه التصريحات الهوائية كافية لتوضيح عقم نساء الاحتلال الذي لايختلف كثيراً عن عقم رجاله. إلّا أنّ ازدياد تأسيس منظّمات وتكتّلات نسوة الاحتلال يستدعي توضيحاً أدقّ. الملاحظة الاولى التي تستحقّ الذكر هي أنّ عدد المنظّمات يتزايد طردياً مع ازدياد جرائم الاحتلال وعملائه، ومع كلّ فضيحة جديدة يتمّ الكشف عنها وتمسّ كرامة المرأة العراقية وعزّة نفسها. وفي هذا السياق، تحاول نسوة الاحتلال، وخصوصاً النائبات بحكم مناصبهنّ، توفير الغطاء الأخلاقي لديمومة الاحتلال وتوفير المسوّغات لطلب تمديد بقائه من جانب حكومة الاحتلال. ويأتي تكاثر المنظّمات والإعلان عن التكتّلات من أجل إعطاء الانطباع بأنّ العراق المحتلّ يعيش وضعاً ديموقراطياً تعدّدياً يصلح نموذجاً لبقيّة دول المنطقة، بينما يدلّ الواقع العراقي على أنّ مؤسّسي هذه المنظّمات والتكتلات سواء كانوا إناثاً أم ذكوراً يبقون ذات الأشخاص، وإن طرحوا في الأسواق بضاعتهم أو منظّمتهم الجديدة بأسماء مختلفة.
فالكتلة النسوية تضمّ في عضويتها نساء منظّمة «عهد العراق» النسوية مع بعض «الرتوش» البسيط، وهنّ النساء أنفسهن اللواتي عملن مع حكومات الاحتلال المتعاقبة لترويج سياستها، وهنّ النساء أنفسهن اللواتي، باستثناء بسيط، دخلن مع الاحتلال لتسويق السياسة الأنغلو ـــــ أميركيّة ـــــ الصهيونية، وهنّ اللواتي عملن بنشاط محموم مع الإدارة الأميركية ـــــ الصهيونيّة للترويج لغزو العراق وإضفاء الطابع الأخلاقي على إحدى أبشع جرائم العصر الحديث بحقّ المرأة العراقية، أي الحرب الطاحنة التي أشعلت فتيل العنف والمحاصصات وفرق الموت، ومنحت قوّات الاحتلال والمرتزقة حقّ السيادة على الوطن وأبنائه. ومثلما يبدو من استعدادهنّ للعمل وفق أية صيغة للاحتلال، وإصرارهنّ على السير مع المحتلّ، بأنهنّ مؤهّلات لترسيخ مشروع تقسيم العراق وتفتيته.
ومن أبرز نساء الكتلة الآء الطالباني وصفية السهيل اللتان تمتدّ جذور علاقتهما الوثيقة بمشروع الاحتلال إلى مساهمتهما مع أخريات مثل زينب السويج وزكية اسماعيل حقي وتانيا كلي وكاترين ميخائيل في تأسيس منظّمة «نساء من أجل عراق حرّ» من جانب إحدى أهم المؤسّسات الأميركية ـــــ الصهيونية غير الحكومية الناشطة في العراق المحتلّ، وهي «مؤسّسة الدفاع عن الديموقراطيات». التى تعمل إمّا بطريق مباشر كالإشراف على عقد المؤتمرات وحلقات الدراسة والترويج لفكر الاحتلال وسياسته، أو غير مباشر من خلال توفير الدعم، بأشكاله المختلفة، للعديد من منظّمات المجتمع المدني، خصوصاً النسوية منها، والمنظّمات المدافعة عن «حقوق الأقليات»، ومراكز البحوث والدراسات «الديموقراطية» وأجهزة الإعلام. وقد تشكّلت المؤسّسة في بداية عام 2001، في واشنطن، باسم «أميت: مبادرة تعليمية» من جانب عدد من المليارديرات الصهاينة أدركوا بأنّ شرائح من المجتمع الاميركي، في مجالي الإعلام والجامعات خاصةً، باتت تميل نحو تأييد الشعب الفلسطيني، وأنّ إسرائيل عاجزة عن الدفاع عن نفسها، تحديداً أثناء مواجهتها للانتفاضة الفلسطينيّة.
وقد تمّ تغيير الاسم بعد الحادي عشر من أيلول، وإن بقي جوهر العمل والولاء الصهيوني المحافظ الجديد. وحسب المحرّر المعروف جفري بلانكفورد في تقريره عن المؤسّسة في 16/3/2006: «إنها واحدة من أقوى منظّمات اللوبي الصهيوني وأكثرها تأثيراً في أميركا، تضمّ في مجلس إدارتها أسماء معروفة بمناصرتها للصهيونية وبينهم المحافظون الجدد. وهي مؤثرة إعلامياً حيث تُعتَبَر مصدراً لسبعة مقالات يومية في الصحف واسعة الانتشار. وقد اختار بوش هذه المؤسّسة مكاناً لإلقائه أوّل خطاب يدافع فيه عن سياسته في العراق. إنها منظمة سياسية صهيونية فاعلة».
وتفتخر المؤسّسة في موقعها الالكتروني بأنها المنظّمة غير الحكومية الوحيدة التي أرسلت فريقاً من المحامين إلى محكمة العدل الدولية للدفاع عن حقّ اسرائيل في بناء الجدار العنصري. فلا عجب إذاً أن يتمّ خنق وتقسيم أوصال مدننا بجدران العزل الطائفية المقيتة إذا ما كانت مؤسّسات اللوبي الصهيوني الداعمة لجدار العزل العنصري في فلسطين هي ذاتها التي تمارس نشاطاتها في العراق، ومن خلال حفنة من نساء مخلصات على شاكلة السهيل والطالباني الناشطات لتأسيس شبكة من المنظّمات الحليفة التي « تهدف، جميعها، إلى تحقيق مبادئ المؤسّسة نفسها وإن كانت تعمل تحت اسم مختلف»، حسب برنامج مؤسّسة الدفاع عن الديموقراطية. وتحت هذا البند تفتخر المؤسّسة بدورها قبل الغزو وبعده في تأسيس منظّمات المجتمع المدني العراقية أو العراقية ـــــ الأميركية أو تكريس الدعم المادّي السخي لما هو موجود ويتماشي مع سياستها. ومن بين منظّماتها العاملة في العراق المحتلّ تحت غطاء الدفاع عن حقوق المرأة منظمة «الائتلاف الاميركي ـــــ العراقي للحريّة» و«منظّمة التحالف النسوي من أجل عراق حرّ».
والمعروف أنّ نسوة الاحتلال قد كوفئن على خدماتهن إمّا عن طريق تعيينهن في البرلمان أو مسؤولات في الحكومة وفق نظام المحاصصة الطائفية والعرقية. فالنائبة آلاء الطالباني من التحالف الكردستاني ورئيسة لجنة المجتمع المدني، وسميرة الموسوي النائبة عن كتلة «الائتلاف العراقي الموحّد» ورئيسة لجنة المرأة والأسرة والطفولة، وهي وإن لم تكن من عضوات «نساء من أجل عراق حرّ» العتيدات إلا أنّها لا تقلّ عنهنّ كفاءة في تغطية الجرائم والانتهاكات، مثلما كانت الحال في فضيحة دار الأيتام. فقد أشرفت الموسوي على كتابة تقرير لجنة المرأة والأسرة والطفولة في مجلس النواب عن سوء المعاملة والاعتداءات الجنسية وإهمال أطفال «دار الحنان» للمعاقين، الذين عُثِر عليهم شبه أموات ضحايا الجوع والعطش. وبرّر التقرير حالة الأطفال المخيفة بأنهم كانوا «لا يفضّلون تناول الطعام» وأنّهم كانوا عُراة على أرض الدار الجرداء و«موثوقين إلى أرجل الأسرّة التي مُنعوا من النوم فيها بسبب الخوف على حياتهم لأنهم يعانون من حالات غير طبيعية». ولم يشر التقرير الى إهمال المسؤولين في توفير الحماية اللازمة للطفل العراقي، في ظروف اقتصادية كارثية ازدادت فيها العمالة المبكرة للأطفال، والمتسرّبين من المدارس، والأيتام والمهجَّرين قسرياً داخل البلاد وخارجها. كما لا يوجد في مفردات البرلمانيات أو غيرهنّ من ناشطات التمويل الاستعماري ذكر للاحتلال.
فهل كان تجاهل ذكر إهمال المسؤولين «نتيجة لحالة السيطرة الذكورية السائدة في البرلمان»، حسب تصريح الموسوي، أم أنّه نتيجة ارتباط كلّ برلماني، مهما كان جنسه، بحزب طائفي أو عرقي، أو حسب تصريح الموسوي أنّ «تأليف هذه الكتلة لا يعني الانسلاخ عن الكتل التي تنتمي إليها البرلمانية»؟
إن سلوك النائبة الموسوي وغيرها من نسوة الاحتلال، مثل رجاء الخزاعي عضوة مجلس الحكم سابقاً، ورئيسة المجلس الوطني للمرأة العراقية، التي لم تتمالك نفسها عندما رأت بوش يتقدّم نحوها في البيت الابيض فركضت باكية لتحتضنه منادية إياه يا محرّري، ما هو إلّا دليل واضح على أنّ في سوق خدمة المحتل، لا فرق بين ذكر أو أنثى، وأنّ التباكي على حقوق المرأة بين برلمانيات «العراق الجديد» محض هراء يستخدمنه لكسب المزيد من التمويل والإفادات وتحقيق مشروع تجزئة العراق.
* كاتبة عراقيّة