ربيع بركات *
منذ زمن طويل مللت قراءة صفحات الرأي في الصحف العربية، وأقرّ هنا بأنّ كتابات أسعد أبو خليل هي من أعادتني للاهتمام بهذه الصفحات ورقية كانت أم إلكترونية.
للبدء أودّ تسجيل بعض الملاحظات التأسيسيّة، لكي لا يُحمَل ما سأقوله لاحقاً في المتن على غير ما قصدت:
أوّلاً، إنّ هذا المقال بالتأكيد ليس دفاعاً عن محسن إبراهيم، الذي أقرّ بأن معرفتي به وبكتاباته وبتاريخه منحصرة بقراءتي لبعض الكتب والمقالات التي تذكره وتتحدّث عنه، لذلك فإن دفاعي اليوم ليس حقاً دفاعاً عنه أو عن الحقبة الماضية التي عايشها بل هو دفاع عن الإنصاف وعن حقّ الدفاع عن الحقبة التاريخية التي يتناولها مقال السيد أبو خليل.
ثانياً، هذا المقال أيضاً ليس دفاعاً البتّة عمّا فعله الأشخاص المذكورون في تلك الحقبة، وتشديداً بالتأكيد ليس أيضاً عن الأشخاص الراهنين (أعوذ بالله) الذين ينتقدهم الكاتب في المقال، لكنه محاولة لقراءة الأحداث في إطارها الزمني والمعرفي والمفاهيمي السائد وقتها، لأنّ قراءة الماضي في إطار وأدوات معرفية مفهومية معاصرة «حاضرة» ليس أمراً منصفاً ولا
علمياً ولا موضوعياً بالتأكيد.
ثالثاً، إنّ ردّي على السيد أبو خليل هو أبعد ما يكون عن التصادمية أو الأهداف المبيّتة أو النيّة السيئة أو تصفية لحسابات سابقة، بل رغبة بالمحافظة والدفاع عن متعة خلقتها قراءة كتابات الكاتب التي تحمل فكراً ونقداً موضوعيَّين وعلميّين، إذا صحّ القول، وخصوصاً احتراماً لفهمنا وعقولنا، متعة ندرت وغلت في زمن صحافة الأنظمة وثقافة رأس المال المشبوه.
يقرّ أبو خليل في مقاله بأنّ محسن ابراهيم كان رائداً فكرياً في تلك الحقبة. لكنّه يعيب عليه إنتاجه لفكر يمينيّ فاشويّ عبر حركة القوميّين العرب، وعلاقته مع الأنظمة المسمّاة خطأً «التقدّمية»، لفهمه المؤامراتي للمسألة اليهودية والصهيونية وطبيعة الصراع مع إسرائيل، ولاستعماله «شعار الثأر القبلي الجاهلي»، ثمّ تحوّله لحركة اليسار الشيوعي العربي...
وهنا أرى الكاتب يظلم قليلاً الرجل والمرحلة أو ربّما ينتظر منهما أكثر بكثير من حولهما وطاقاتهما. يجبّ قراءة المرحلة في إطارها التاريخي المفهومي والقيَمي. أعتقد أنّنا متّفقون على أنّ المعرفة البشرية هي فعل تراكم، وتطوّر الفكر البشري لم يأت من المجهول، بل هو تراكم تجارب وأحداث فكرية تاريخية وثقافية. وما هو سائد ومقبول فكرياً وثقافياً اليوم ليس منظومة آتية من فراغ أو نتيجة عبقرية أحد أو وَحياً منزَلاً معصوماً من أي تلوّث مرتبط بالتراث الفكري والثقافي المحلّي والعالمي والأحداث التاريخية.
فمحسن ابراهيم هو رائد فكري عربي في الخمسينيات من القرن السابق وليس نبيّاً، فكره هو ثمرة تلك الحقبة، إنتاجه وتطورّه الثقافي هو انعكاس طبيعي لتلك الحقبة. وهذا الفكر سواء كنّا معه أم ضدّه، يجب نقده في إطاره الزمني لا في إطار تاريخي مختلف وذلك احتراماً للإنصاف والرصانة العلمية، إذ لم يكن متوافراً لهم الخزّان نفسه والتطّور المعرفي الثقافي المتوافر اليوم.
إنّ دراسة المناخ الفكري المحلّي والدولي سواء على المستوى السياسي العملي أو على المستوى العلمي الأكاديمي تمكّننا من تفهّم، وليس قبول الاتجاهات الفكرية العربية في تلك الحقبة لإنتاج فكر «يميني فاشوي» لحركة القوميّين العرب، للفهم المؤامراتي للمسألة اليهودية والصهيونية وطبيعة الصراع مع إسرائيل ورفض محاولة الفصل بين اليهودية والصهيونية أو الاستشهاد بهتلر أو التشكيك بالمحرقة اليهودية أو التبرير العنصري لجرائم الصهيونية على أنّها تعود إلى خصال غير حميدة لليهود كيهود، واستعمال «شعار الثأر القبلي الجاهلي» الذي هو بكلّ أسف مكوّن ثقافي متأصّل في الشخصية العربية لا يمكن التعامي عنه أو التعامل معه كأنّه غير موجود، وإن كان أيضاً غير مقبول أخلاقياً استعمال هذا المكوّن وسيلةً حتى لو كانت دراسة الواقع السياسي والاجتماعي تتفهّم هذا الاستعمال دون التوغّل في تقبُّل فكرة «الغاية تبرّر الوسيلة» (وهنا نعود للقول إنّ محسن ابراهيم لم يكن يوماًَ ولم يدّعِ أصلاً أنّه نبي أو معصوم حتى نعيب عليه ذلك). لا أظنّ أنّ انتهاج محسن ابراهيم وغيره من مفكّري تلك الحقبة لهذا الفكر كان عملاً تكتيكياً أو وسيلة لتنفيذ مآرب أو عن سوء نيّة أو تغطية لنظام سياسيّ، بل كان عملاً فكرياً أصيلاً يعبّر عن سقف قدرتهم على الفهم والمعرفة والإلمام بتقنيات الدراسة الموضوعية الرصينة في هذه المرحلة ليس بمعنى المحدودية (الذي يمكن أن يُفهم على أنه إهانة) بل بمعنى الممكن والموجود من قدرة لا أكثر.
أمّا بالنسبة للأنظمة التي يرى الكاتب أنها مسمّاة خطأً «التقدمية»، فأعتقد، ومن دون الدخول في جدل علم اجتماع سياسي ودستوري، وإن كانت هذه الأنظمة هي أبعد ما تكون عن التقدّمية اليوم فهي كانت في لحظة ما من التاريخ تقدّمية فعلاً بالمقارنة مع الأنظمة البدائية التي كانت قائمة في تلك المرحلة والتي لا تزال قائمة بكل أسف حتى اليوم (الأنظمة الملكية القبائلية وأخواتها).
أمّا بالنسبة إلى عملية التحوّل الذي يصفه الكاتب بـ«التحوّل المصطنع إلى اليسار» التي قامت بها من فوق حركة القوميين العرب، فلا يفسّر الكاتب لماذا رآها تحوّلاً مصطنعاً. لا ننكر هنا حقّ الكاتب بالتعبير عن رأيه، لكن نسأله المزيد من الحجّة والتبرير لدعم رأيه كما عوّدنا. لا يمكن الجود إلا من الموجود، ولا يمكن النظر إلى ما حصل في التاريخ إلى كونه شرّاً مطلقاً، ومن غير المنطقي إدانة حقبة تاريخية بقضّها وقضيضها إدانة مطلقة، فكلّ مرحلة تاريخية شئنا أم أبينا، هي خزّان ودرجة من درجات التطوّر المعرفي لمجتمع ما.
حسنة المعرفة أنّها أمر لا يمكن عكسه، من يعرف يعرف مهما نافق وكذب على نفسه. المعرفة محكومة بالتطوّر والتقدم، وحركة الوعي المعرفي هي حركة تصاعدية متواصلة، قد يعوقها استعمار أو وصولية أو فساد أو حدث تاريخي ما فيبطئها لكنه لا يمكن أن يوقفها أبداً. إلّا أنّ هذه الحركة لا يمكن استعجالها لأنها مرتبطة بكمّ هائل من المتغيرات الفكرية العلمية الثقافية الاقتصادية السياسية التاريخية الطبيعية... من الممكن تحسين ظروف تقدّمها لكن من غير الممكن التنبؤ بحركتها. من هنا فإنّ استعجالها أو إدانة مسارها مطلقاً في حقبة تاريخية ما هو بمثابة جلد للذات. كذلك انتظار الكثير منها من دون دراسة واقعية لجميع الظروف المعاصرة هو أيضاً مجلبة لليأس والخيبة. وهنا تصبح الواقعية في الدراسة والنقد فعلاً قيّماً ومفيداً لحركة التقدّم المعرفيّ نفسها.
* محام وباحث سياسي وحقوقي