سلمى الشيخ أحمد *
يصعب على المرء فهم لماذا يكتب شخص مراجعة لكتاب ما، فيناقشه مقوِّلاً كاتبه عكس ما قاله لكي يتمكّن من مناقشته. هذا ما حصل مع الكاتب برهان غليون عندما ناقش مؤلَّف عزمي بشارة الأخير «المسألة العربية ـــــ مقدّمة لبيان ديموقراطي» في صحيفة الاتحاد في 24 من الشهر الجاري. وفي مقالة صغيرة، نجح سعد محيو في صحيفة «الخليج» من أن ينسخ فقرات كاملة من مقال برهان غليون الذي نُشر على موقعه. وهو وإن أكّد أنّ عزمي بشارة يؤمن بالديموقراطية مثنياً على مستوى الكتاب، فإنّه قلب مقولاته رأساً على عقب. لا ندري ما هو الدافع لهذا كلّه. فهو بالتأكيد ليس إجراء مراجعة لكتاب جدّي وتجديدي في الفكر القومي والفكر الديموقراطي على حدّ سواء.
ما يلفت النظر في هذا الكتاب هو ليس فقط غناه بالمعلومات والتجديدات الفكرية، بل أيضاً ما يطلق عليه عزمي بشارة «التواضع المعرفي»، إذ يعطي للديموقراطيّين وللقوميّين العرب حقّهم، ويناقش كلّ ما يستحقّ المناقشة حتى عندما يتعلّق الأمر بكتّاب مغمورين، ولا يبخل بالإطراء. وعلى رغم التجديد الفكري والنظري الذي ينتجه، لا يكتب بشارة خلافاً لغيره عن أي موضوع كأنّه أوّل من كتب عنه. ومن اللافت أنّه انتبه إلى مؤتمرات عن الديموقراطية عُقدَت في الخمسينيات في بيروت وغيرها، لأنّ التفكير في الديموقراطيّة عربياً ليس وليد الثمانينيات. وهو يمتدح جهود الديموقراطيين العرب، ولكنه يؤكّد أمرين: ضرورة طرح البرامج الديموقراطيّة من خلال أجندة قومية وطنية، لا من خلال أجندة تدخّل استعماري عسكري. وثانياً أنّ على الديموقراطيين ألّا ينتظروا أن تقوم نظريّات الانتقال إلى الديموقراطيّة بعملهم، وأنّ عليهم أن ينظّموا أنفسهم ويطرحوا أجندات وبرامج لكيفيّة إدارة دولهم ومجتمعاتهم القطرية، لا أن يكتفوا بالوعظ. وهو يفعل ذلك من خلال دراسة نظريّة مطوّلة يفنّد فيها نظريّات تتحدّث عن إمكانية التحوّل الديموقراطي من دون ديموقراطيين. وهو ينتقد القوميّين مع اعترافه بمساهماتهم الكبرى منحازاً إلى مدرسة قسطنطين زريق وساطع الحصري التي يعتبرها غير رومانسية وعقلانية، إذ يؤكّد ضرورة أن يطرح القوميّون برامج ديموقراطيّة وألّا ينتظروا الوحدة العربية لطرح الديموقراطيّة، فمن دون ذلك تفقد القومية علاقتها بهموم الناس، فهي بعد الفوات التاريخي الذي حصل، لن تتحقّق إلّا من خلال الديموقراطيّة. وهو (عكس ما كتب غليون ونسخ عنه محيو) لا يدعو إلى ربط الديموقراطيّة بقيام أمّة ناجزة، بل على العكس تماماً. ولا يمكن أن يكون هنا سوء فهم للمقروء عكس المكتوب تماماً، إلّا إذا لم يقرأ الكتاب بل قرأ جملة كتبها «مركز دراسات الوحدة العربية» على غلاف الكتاب قد تُفسَّر بعد جهد على هذا النحو.
وفي رأينا أنّ أيّة مراجعة جديّة لكتاب فكري وتاريخي جدّي من هذا النوع يجب أن تكون عرضاً للأفكار الرئيسيّة على الأقل الواردة فيه.
التجديد الأول: ينطلق عزمي بشارة من ضرورة تجديد الفكر القومي ديموقراطياً. وهو لا يفعل ذلك وعظاً بل يقوم بتجديد غير مسبوق في الفكر القومي إذ يفصل بين القومية والأمّة، فيجعل هدف الثانية التحوّل إلى أمّة المواطنين، «مجتمع مدني نحو الداخل وأمّة نحو الخارج»، هكذا يعبِّر عزمي بشارة مجدِّداً. في حين أنّ الإيديولوجيا القومية تطابق بين القومية والأمّة. ويسعى الكتاب للفصل بين الانتماءين القومي والطائفي وغيرهما من الانتماءات وحقوق المواطن في الدولة، وهو مسعى غير مسبوق عند أي فكر قومي. وهو في ذلك يكمل مشروعه الفكري الذي بدأ في كتابه عن المجتمع المدني.
فبالنسبة إلى عزمي بشارة المواطنة هي الوجه الآخر للسيادة، والديموقراطيّة أفضل تعبير عنها. وهو يؤكّد في الكتاب عشرات المرّات أن لا وجود في عصرنا لديموقراطيّة غير ليبراليّة.
ويحاول الكتاب تحرير القومية من قبضة الرومانسية، فهو يميّز بين القومية والإيديولوجيا القومية، ثمّ يؤكّد أنّ القومية هي رابطة ثقافية لغوية تُسيَّس بواسطة الحركات القومية لتصبح هويّة الحداثة عند أي شعب من الشعوب. إضافة إلى ذلك، يرى بشارة في كتابه أنّ القومية تُصنع مثل أيّة هويّة، وهي ليست أبدية ولا تاريخية، وهو يؤكّد الفرق بين الشعب العربي كياناً تاريخياً والقومية العربية ظاهرةً حديثةً وليدة الحداثة مثل أي قومية، بما فيها من رومانسية استعادة الجماعة والانتماء، مثلها مثل القوميات الأوروبية والتركية (الشقيقة التوأم للقومية العربية). وهي ليست ظاهرة أزلية أبدية.
التجديد الثاني: يميّز الكتاب بين تاريخ نشوء الديموقراطيّة، والعوامل التي ساهمت في نشوئها من جهة، وعملية إعادة إنتاج الديموقراطيّة لذاتها: وهو يقول إنّ الثانية قد لا تحتاج إلى ديموقراطيّين، أمّا الأولى فاحتاجت إلى ديموقراطيّين بمفاهيم عصرهم، حتى لو لم يكونوا ديموقراطيّين بمفاهيم عصرنا. وهنالك عملية ثالثة يتحدّث عنها الكتاب هي الانتقال إلى الديموقراطيّة في عصرنا، وهي تستند عموماً إلى فهم نشوء الديموقراطيّة تاريخياً من خلال استقراء العوامل التي تعتبرها رئيسيّة فيتحوّل غيابها في النظرية إلى عائق أمام نشوء الديموقراطيّة في الحاضر. وتقوم هذه النظريّات بدراسة بعض تجارب التحوّل الديموقراطي لكي تستنتج منها بعض التعميمات التي تشكّل نظرية الانتقال إلى الديموقراطيّة. ويقول بشارة إنّ هذه النظريات لا تفسّر الانتقال إلى الديموقراطيّة في موريتانيا مثلاً، ولم يكن بوسعها أن تتوقّعها. فكل تجربة انتقال من هذا النوع تغني النظرية وتزيد عليها، ولذلك فهي ليست قانوناً أو نظرية علمية بالمعنى الحرفي. ونحن لا نسترشد بها، مؤكّداً عدم الحاجة إلى انتظار فعل عوامل موضوعية لطرح البرنامج الديموقراطي.
التجديد الثالث: يعالج الكتاب ما يسميه «عوائق الانتقال إلى الديموقراطيّة»، ومنها الدولة الريعيّة، الثقافة السياسية، البنية العشائرية، تسييس التعدّدية الطائفية، وترييف المدينة، وغيرها. وهو يستعرضها بإلمام واسع ومثير. ويؤكّد أنّها فعلاً عوائق أمام التحوّل، ولكنّه يرفض اعتبارها كافية لتفسير تعثّر الانتقال العربي إلى الديموقراطيّة. فقد وجدت في دول أخرى جرى فيها تحوّل ديموقراطي. ويتحدّث بشارة عن «استثنائية عربية» لا إسلامية. ثمّة صعوبة في انتقال دولة عربية إلى الديموقراطيّة لا تمييز فيها بين دول إسلامية وأخرى غير إسلاميّة. وهذه مرة أخرى مقولة نظرية ينفرد بها. ومن هنا توصّل إلى صياغة المسألة العربية، الخصوصية العربية. وهو يختار صياغتها تحت عنوان: «المسألة العربية».
لا يطرح بشارة مشروع أمّة ناجزة إطلاقاً، بل يصرّ على ضرورة فهم عوائق التحوّل الديموقراطي التي استعرضها في ظلّ «المسألة العربية» كمسألة قومية سياسية طرحت ولا تزال غير محلولة، وهنالك حاجة إلى حلّها في الوعي والفعل السياسيَّين في كل بلد عربي على حدة، ولو كانت من دون وحدة عربية. فهنالك حاجة إلى التعامل معها وإلى عدم ابتعاد الديموقراطيّين عن هذا الهمّ، لأنّه يعني فقدان الصمغ اللاصق الذي يمكّن من التعدّدية في مجتمع واحد، وفقدان الشرعية للمؤسّسات. وهي منقسمة بين أنظمة الإيديولوجيا القومية التي تحوّلت إلى إيديولوجيا تعويضاً عن نقص في الواقع، إذ تزداد إيديولوجيتها وحدة كلّما ازداد تمزّق الواقع، وبين دول محافظة لا ترى في القومية جامعاً على الإطلاق. هنا يطرح الكاتب بالتفصيل فشل سياسة نزع عروبة العراق بالتدخل الأجنبي في تحقيق ديموقراطيّة، ويقارن بينها وبين التدخّل الأميركي إلى جانب الوحدة في ألمانيا واليابان بعد الحرب العالميّة الثانية. ويستعرض فشل الدول العربية في صناعة هوية وطنية بديلة للهوية العربية... (مؤكّداً على أنّه يجب أن يكون هناك تكامل لا تناقض بين الهويّتين الوطنية والقومية، وبينهما وبين البعد الإسلامي في الهوية)، وفشلها أيضاً في إقامة دولة مواطنية في الدول العربية. ويؤكّد الكتاب على إقامة دول مواطنين لا من خلال اللاقومية، بل من خلال الاعتراف بوجود هوية قومية عربية، واعتراف الأخيرة بقومية الأقليات غير العربية، وبمواطنة متساوية فوق القوميات والهويات القومية.
هو كتاب مركّب، ولكن أسلوبه أسهل بكثير من كتابه «المجتمع المدني» الذي شكّل فتحاً نظرياً في تطوير المفهوم في حينه، وما زلنا نستخدمه في دراستنا، ولكنه يصعب على غير المختصين.
* باحثة فلسطينية مقيمة في الولايات المتحدة