محمد حسنين هيكل *
... إنّ الصحافة على تنوع وسائلها وأدواتها لديها ثلاثة طرق اقتراب واضحة إلى وظيفتها الحيوية في مجتمعات الحرية والتقدم.
أول طرق الاقتراب: أن تكون الصحافة مكتوبة أو مسموعة أو مرئية خطوطاً مفتوحة تنقل القرار السياسي على اختلاف مجالاته: داخلية وخارجية، اقتصادية واجتماعية، استراتيجية وعسكرية، من مواقع صُنعه إلى أوسع دوائر المواطنة التي يهمها شأنه، بحيث يتأكد الحق العام في العلم به، وتتوافر إمكانية التعرف بموجباته، والاستعداد لآثاره وتكاليفه، والاطمئنان إلى اتساقه مع الإرادة العامة في الوطن وخارجه، ولكي يظل تحت المتابعة الدستورية والقانونية، ويصبح الرأي العام قادراً على ممارسة مسؤولية الرقابة عليه، والقدرة على إعادة توجيهه ديموقراطياً إذا لزم.
وطريق الاقتراب الثاني: أن تكون وسائل الصحافة وأدواتها خطوطاً مفتوحة أيضاً ما بين مجالات الفكر والعلم والفن من مراكز حيويتها، سواء في الجامعات، أو المعاهد ومراكز البحث، أو مسارح العرض والأداء وأشكالها المتعددة في التعبير، إلى جمهور واسع له الحق أن يرى ويستوعب ويستمتع.
وطريق الاقتراب الثالث: أن تحاول الوسائل والأدوات نفسها قصاراها كي تنقل وتستثير أنفع وأرفع حوار بين القرار السياسي وشؤونه الجارية وقضاياه واهتماماته وبين الأفكار وقدرتها على تخصيب الفعل الإنساني وتوليده، لكي يجمع الحوار ما بين الفعل والفكر، ويؤكد القيمة ويحفز إرادة إنسانية ذكية وقوية، وهنا التوافق بين الجامعة العريقة ووكالة الأنباء الشهيرة يصبح مرغوباً فيه ومطلوباً.
***

إن طرق الاقتراب الثلاثة كما وصفتها لا تحقق مطلوبها بهذه البساطة التي وصفتها، فالواقع العملي أكثر تعقيداً، لأن مراكز صُنع القرار لا تمارس فعلها في المثالي المفترض، بل تمارسه تحت سطوة صراعات تاريخية كبرى ومصالح يتعارض بعضها مع بعض، والكثير منها غائر في زمانه، أو جامح في مقاصده، أو عنيف في ممارساته، وفي ظل هذه الأحوال فإن القرار السياسي تحكمه بالقطع عوامل غير مثالية!
بالتوازي فإن مجالات صُنع الأفكار ومنجزات العلوم وتجليات الفنون لا تطرح ما لديها في الفضاء المثالي المفترض عينه، بل تتأثر هذه المجالات في مجمل نشاطها بضغوط يناسبها أن تضرب علّها تزيح، أو تحجب علّها تحتكر، وهنا تبرز عوائق تعرقل المثال الحر للقيمة والقدوة.
يلي ذلك أن قنوات الاتصال التي تمثلها الصحافة لا تمارس دورها في نقل الأخبار والأفكار وصوت الحوار وصداه، على خطوط مستقيمة سالكة ومطهرة، بل تتعرض قنواتها المفتوحة على الطرق الطويلة لأنواع ودرجات من التدخل والتحيز تمليها الصراعات والضغوط والمصالح، وحتى الأهواء والأمزجة.
حضرات السيدات والسادة
... إننا نتحدث كثيراً عن عالم واحد لكن مثل هذا الحديث فيه قدر من المبالغة، أو ربما التمني، فقد نكون في حكم الجغرافيا عالماً واحداً، لكننا في حكم التاريخ عالمان: شمال وجنوب، وليس يجدي أن نتأدب ونجامل في الحقيقة، وكذلك ليس يجدي أن نكتفي بالنظر إلى النخب المتعولمة في الجنوب، وننسى الكتل الهائلة من البشر وراءها بل وبعيداً منها...
حضرات السيدات والسادة
... إنني رجل من عالم الجنوب يدرك هموم عالمه لأنه يعيش واقعها، وهو يتحدث إلى عالم الشمال ويحسب أنه يستطيع فهمه، بظن أن الظروف أتاحت له أن يعيش مهنة الصحافة في الجنوب وفي الشمال معاً... وأسمح لنفسي بالقول ومن هذه الحافة بين العالمين إننا نحتاج الآن وبسرعة إلى جسور لعبور هذه المسافة، وإلا تصادمت الكتل ووقعت انفجارات مهولة تسقط مثل الكواكب التي يختلّ مدارها في ثقوب سوداء في مجاهل الفضاء! وبعض ذلك وارد، واحتمالاته تتزايد إن لم نبذل جهداً، وأول الجهد أن نتصارح، مهما كانت المصارحة مزعجة!
دعوني أبدأ وأقول بتعميم إجمالي أن عالمنا في الجنوب يشعر أن القرار الصادر من مراكز القوة الدولية، كما يصل إليه، يصدمه بقسوة لا يبدو أنها تأبه وتهتم، وبإصرار على العنف لا يبدو أنه يخشى أو يتحرج، ثم إن صوت الحوار لا يدعوه إلى مشاركة، لأن القرار في معظم الأحيان ينقضّ عليه بغتة ودهماً.
يشعر عالمنا في الجنوب كذلك أن دنيا الأفكار والعلوم والفنون كما تضيء أمامه من بعيد ليست مقبلة عليه أو مرحبة به كما يأمل ويتمنى.
ثم إن صوت الحوار يصل إلى الجنوب، إذا وصل، مثقلاً بشوائب من التحيز بل والعدوانية! وهنا وفي هذا السياق فإنني أستأذن أن أطرح أمامكم ثلاث ملاحظات، آمل أن توضع في اعتباركم...
أولى الملاحظات: أننا لسنا أمام صراع حضارات متعددة متعارضة يمكن أن تتصادم أو تتصالح، لأن شواهد التطور التاريخي تومئ إلينا بأنها حضارة إنسانية واحدة، صب فيها الجميع ما زاد عندهم أوقات الفيض، وسحب منها الجميع ما لزمهم أوقات الجفاف، وساعدوا كل في زمانه على ملء خزان هائل للحضارة الإنسانية أصبح شراكة طبيعة ورصيداً جماعياً متاحاً بالحق لمن يريد ويستطيع.
ومن المفيد هنا أن نتذكر أنه مع اتساع الأرض واتصال التاريخ فإن كل الشعوب والأمم قدمت ما راكمته من ثقافات البيئة والمعرفة والتجربة، وعن طريق الانتقال الحر للمنافع، إضافات سخية ومستمرة وتلقائية إلى المشترك البشري الجامع.
أحدث ذلك حالة التأمل والفلسفة بحثاً عن الحق والحقيقة، حالة كشف العقل حين تعرف الناس في الفجر الإنساني الأول بملكات التصور، وتوصلوا إلى سر الحرف في الأبجدية وسحر الرقم في العدد، حالة التنبه إلى معجزة الزراعة، حالة صناعة الأدوات والمعدات، حالة فنون المعمار، حالة فتح الطرق واستئناس وسائل المواصلات، حالة صنع السفن وركوب البحار، حالة النظر إلى الفلك ومسارات النجوم، إلى آخره...
وعلى امتداد عملية التفاعل بين الثقافات وهي تتدفق من مواقعها الأولية وأحواضها الأوسع إلى المحيط الكبير، وما بين الصب والسحب من الرصيد المشترك للحضارة الإنسانية، فإن الحوض الحضاري للبحر الأبيض تحركت عليه تيارات تتبدى وكأنها خريطة مناخية حية موصولة بين معابد وقصور بابل ومنف إلى أروقة وأعمدة أثينا إلى مكتبة الإسكندرية، إلى دار الحكمة في بغداد إلى دمشق إلى قرطبة، ثم عبر صقلية نحو جنوب أوروبا إلى إيطاليا ثم إلى الشمال نحو ألمانيا وفرنسا وبريطانيا، ثم يتجه الخط عابراً للأطلسي إلى أميركا ينفذ من الشاطئ إلى الشاطئ في اتجاه الباسيفيك، ليعود فيطل على شرق آسيا، فإذا الحيوية المتجددة لفيض البحر الأبيض عبر الأطلنطي تجتاز المحيط الهادي لكي تلتقي هناك بالحوض العميق للحضارة الصينية...
لقد تصادف هذا الصيف أنني وقفت أمام مكتبة الإسكندرية التي أُعيد بناؤها، ثم كنت بعد أيام عند سفح «الأكروبول»، ثم صعدت سلم كنيسة القديس «بطرس» في الڤاتيكان، ثم تجولت متأملاً معالم النهضة ومقتنيات القصور في «فلورنسا»، ثم مشيت فوق جسور ڤينيسيا نحو ميدان القديس «مرقس»، وعند هذه المواقع ومشاهدها فقد ملأت خواطري عبارة كتبها الأستاذ Stefano Carboni أمين متحف «المتروبوليتان» في نيويورك، قال فيها: «إن حوض البحر الأبيض المتوسط حدود سائلة! «Liquid Frontiers»، وذلك وصف دقيق لحركة الثقافات في صنع أحواض حضارية، ثم فيضان هذه الأحواض لتصنع محيطاً حضارياً عالمياً وإنسانياً واحداً، وربما إذا عدنا لحظة إلى مجال السياسة نتذكر أن هذا المحيط الإنساني ينسب، ولو من باب المجاز، في كل عصر إلى القوة الغالبة فيه: فهو فرعوني في عصر إغريقي، في عصر ثان روماني، في عصر ثالث مسيحي، في عصر رابع إسلامي، في عصر خامس أوروبي، في عصر سادس أميركي، هذه اللحظة العابرة!
ومع تعدد اللغات في حالة الثقافات، فإن الحضارة لها لغة رئيسية في كل آن هي لغة القوة الغالبة في زمانها، فهذه اللغة الرئيسية كانت يونانية، ثم لاتينية، وفي لحظة أخرى عربية، ثم فرنسية، فإنجليزية في هذا الزمان، وقد تصبح نبرة أخرى غداً أو بعد غد!
وعلى تقلب العصور فإن غلبة القوة لا يصح أن تُنسينا شراكة الرصيد الإنساني لمحيط الحضارة فوق أي إمبراطورية أو لغة!
***

أنتقل إلى ملاحظة ثانية ملخصها أنه قبل سنوات قليلة وقع استغلال فجيعة إنسانية محزنة ضربت مدينة نيويورك في الحادي عشر من سبتمبر 2001، وبهذا الاستغلال تحولت الفجيعة إلى عملية تلاعب مقصود بالصور وبأسلوب خداع البصر، فإذا العالم يُفاجأ بأن صورة المسلم عربياً وغير عربي قد أزيحت لتحل محلها صورة المتعصب الإرهابي، ثم تضافرت عناصر من عوالم القرار والأفكار والحوار تحت ضغوط المصالح المتصارعة بقصد ترسيخ هذا التلاعب بالصور وخداع البصر، إلى حد إعادة كتابة قصة الإرهاب في التاريخ، فإذا الشمال بريء منه، وإذا الشرق الأقصى بعيد عنه، وإذا الدين الإسلامي وحده مرادف للانتحار والقتل في المخيلة العامة الشائعة في الشمال.
نلاحظ أن رمزاً دينياً له مقامه هو بابا الڤاتيكان «بنديكتوس السادس عشر» وقف يتحدث عن الإسلام وعن الحضارة في جامعة ألمانية، فإذا هو يلحق «التمدّن» بالشمال، والهمجية بالجنوب الإسلامي، ويقرر، ولو بالتلميح، أن الفارق بين العالمين: «أن الغرب أخذ من المسيحية ثم من الفلسفة اليونانية، ما يميزه عن غيره في إعلاء قيمة الإنسان»، وكان أمل كثيرين ورجاؤهم لو تذكر خليفة «بطرس الرسول» أن المسيحية كلها غيث نزل على الشرق وفاض على الغرب رسالةً وحكمةً، حواريين وقديسين، قصصاً وتعاليم، صلوات وترانيم، وأن السيد «المسيح» نفسه من مواليد «الناصرة»، والقديس «بطرس» الذي يقوم الڤاتيكان على رفاته من أبناء القدس، فكلاهما من الشرق، وأن القديس «مرقس» الذي تقوم كنيسته بمعمارها المتميز على أجمل ميادين أوروبا «سان ماركو» مولود في أقاصي صعيد مصر، وكان مدفنه في الإسكندرية، ومنها أخذ رفاته (ولا أقول سُرق) في القرن التاسع إلى «ڤينيسيا»، وعلى رغم ذلك جنح كبار فناني النهضة إلى تصوير هؤلاء الرسل والقديسين والحواريين معظم الوقت أصحاب بشرة بيضاء وعيون زرقاء وشعر ذهب.
هذا عن التأثر بالمسيحية في شأن تمدن الشمال أو تمدن الغرب.
وأما عن نفحة الفلسفة الإغريقية، فليس هناك من لا يعرف أن الفلسفة الإغريقية لها مقدمات سبقتها وجوار مشرقي أحاط بها وانساب إليها، ثم إن الفلسفة الإغريقية ضاعت من أوروبا في ظلام القرون الوسطى، بينما كان الجنوب الإسلامي في حالة انتعاش وتدفق ثقافي، وضمن تفاعلات هذا الانتعاش والتدفق فإن الفلسفة الإغريقية عادت إلى أوروبا عن طريق فلاسفة الأندلس العرب، وعلى رأسهم الفيلسوف المسلم الأشهر «محمد بن أحمد بن رشد الأندلسي»، ولم يكن «ابن رشد» وغيره من فلاسفة الإسلام مجرد وسطاء أو ناقلين، بل كانوا مجددين زادوا بالدرس، وتوسعوا وأحاطوا.
هي إذاً حدود سائلة على حد وصف أستاذ متحف «المتروبوليتان» الحكيم.
***

حضرات السيدات والسادة
بقيت ملاحظة ثالثة أتمنى أن ألمسها في رفق. إنني توسعت كثيراً في حديث التاريخ، بينما حديثنا عن الصحافة، وظني أن هناك صلة من نوع ما بين الاثنين، معقدها أن الشرق المسلم ومعه مسيحيّوه يدفع الضرائب مرتين:
الأولى لأن حركة التقدم العالمي بسبب ثورة العلوم والتكنولوجيا لم تعطه حتى الآن فرصة لالتقاط الأنفاس، يمسك لحظتها بالعصر ويواصل معه. وفي حين أن الشرق البوذي نجح أحياناً في الإمساك باللحظة، فإن الشرق الإسلامي ومعه مسيحيّوه تعذر عليهم اللحاق لأسباب معقدة ليس هذا مجالها.
والثانية، وهي التي تعنيني لاتصالها بموضوع الإعلام، ملخصها أن الشرق المسلم يعاني كون الأقلام والأضواء والعدسات كلها توجهت وتركزت عليه، بينما هو يعاني المرحلة الأصعب في الانتقال من قديم إلى جديد، ومن تأخر إلى سبق، ومن عتمة إلى نور.
وبالطبع فإنكم تتذكرون أن ولادة الجديد عندكم جرت وراء ستار، وأما في عالمنا فإنها جارية في منتصف النهار، وكذلك كان الجديد عندنا حملاً ومخاضاً وميلاداً عارياً تحت الوهج وعلى مرأى ومسمع من عالم يتابع ما يجري متجاهلاً حقيقة أن الحمل والمخاض وولادة الجديد حتى وإن كانت مؤلمة عندكم كما هي عندنا فإن الفارق أنها جرت عندكم مكتومة لتظهر بعدئذ في كتب التاريخ بأثر رجعي، لكنها عندنا جرت على الهواء مباشرة فبدت وكأنها فضائح بالصورة والصوت واللون.
حضرات السيدات والسادة،
لقد كنتم محظوظين في اجتياز الجسور من التخلف إلى التقدم ولم يكن لدينا مع الأسف هذا الحظ أو بعضه.
ويسأل بعض زملائنا هنا في الشمال: وماذا نفعل؟ أوليست تلك طبيعة عصر السرعة؟ والتساؤل صحيح والرد عليه بأمانة: أن الإعلام في الغرب ليس مطالباً بالتأكيد وهو يغطي الشأن الجاري في الجنوب أن يستعيد السجلات كل مرة، ولكن المرادف المعنوي لتعذر الاستعادة هو استذكار درجة من ثقافة الإدراك والتعاطف والموضوعية.
دعوني أقول إنه ليس من باب التعسف أن نسأل عما لو أن الصحافة الحديثة وضمنها وكالات أنباء مثل «رويترز» أو مؤسسات مثل A.B.C، وC.B.S، وN.B.C، والجزيرة، وSKY، وFOX، وC.N.N، كانت حاضرة زمن حروب الأباطرة والملوك والكرادلة والعلماء والمذاهب والطوائف والقوميات والطبقات والإمبراطوريات والتحديات الإمبراطورية لها في أوروبا؟!
ماذا على سبيل المثال لو كانت هذه الصحافة الحديثة حاضرة أيام مذبحة «سان بارتولميو»، مثلاً، حين ذُبح مئات الألوف من «الهوجونوت» الفرنسيين على أيدي مواطنيهم من الكاثوليك، بتحريض كرادلة ونبلاء؟...
وماذا لو كان هناك بثّ على الهواء مباشرة لوقائع الحرب الأهلية الأميركية، حين قتل فيها الأخ أخاه، وانتهك عرضه، وحرق زرعه واستباح مدنه وقراه في أطول مجزرة عاشتها أميركا، وأغزر شلال دم تدفق في العالم الجديد!
وماذا لو كان البث المباشر نفسه حاضراً ينقل على الهواء مباشرة مشاهد بعض أو أشد الأعمال ظلماً في تاريخ الإنسانية؟! تلك التي كان الشمال لسوء الحظ فاعلها، من ظاهرة الاستعمار إلى ظاهرة العبودية وإلى ظواهر أخرى متوالية في قلب القرن العشرين، وضمنها الستالينية والفاشية والنازية، ومعاداة السامية، ومحارق الهولوكوست التي طالت اليهود وغيرهم من الأجناس والأعراق...
تذكرون أن وسائل الإعلام الحديث لم تلحق إلا قرب نهاية أهوال الحرب العالمية الأولى، وإلى حد محدود الحرب العالمية الثانية، ونعرف بالطبع أن هاتين الحربين العالميتين كانتا صراعاً بين قوى الشمال نفسها، لكن الأطراف المتحاربة نقلت ميادين القتل إلى كل القارات وفرضتها على كل الأمم والشعوب، وكانت الحصيلة الإنسانية ما بين ستين وسبعين مليوناً من القتلى، وما بين مئة وخمسين ومئة وسبعين مليوناً من الجرحى في الحربين معاً، وعندما جاء المشهد الأخير في الحرب العالمية الثانية ووقع استعمال السلاح النووي، فإنه لم يكن هناك نقل مباشر على الهواء، وعلى أية حال فقد اكتفينا جميعاً بسماع أصداء المأساة قائلين في نَفَس واحد شمالاً وجنوباً: لن يتكرر ذلك مرة أخرى، ومع ذلك وعلى رغم هذا التعهد الإنساني الجامع فإنه عندما نشبت المعارك في أفغانستان والعراق، لم تتورع القوات الأميركية عن استعمال أنواع من أسلحة «اليورانيوم» المستنفد، وتلك درجة من الاستهتار بالوعد وبالإنسان يصعب اغتفارها.
حضرات السيدات والسادة
... إلى جانب ما عرضت لطرف منه وكان يمكن أن أمضي في قوائمه إلى ما لا نهاية، فإن هناك فضلاً يصعب إنكاره مبدئياً على صحافة الشمال، أوله ومن دون تحفظ، أن بعض قضايانا توجهت إليها لمحات مضيئة لضمائر يقظى قاومت ضغوطاً وتهديدات نعرف مدى خطرها ونقدر درجة نفاذها إلى دوائر صنع القرار والأفكار والحوار.
وعلى سبيل المثال، أنّ بعضاً من الحقيقة، على رغم سطوة أصدقاء إسرائيل، ظهر وبان في ما يتعلق بقضية الشعب الفلسطيني الذي اقتلع من أرضه وأزيح إلى معسكرات وغيتوات مقهورة يائسة، ثم على رغم سلطان ما سُمي جماعة المحافظين الجُدد ومعهم مجموعة المستشرقين الجدد، فإن حقيقة ما جرى في العراق تكشفت ابتداءً من غزو وطن عربي وتمزيقه بغرور وجهالة القوة وبذرائع مختلقة، وفَقَدَ الشعب العراقي نصف مليون مواطن قتلوا، وثلاثة ملايين خرجوا لاجئين من وطنهم، بعضهم داخله في العراق، وأكثرهم في المنافي خارجه، ثم إننا بفضل تلك الضمائر اليقظى في الشمال عرفنا ما جرى في معاقل القهر من «غوانتانامو» إلى «أبو غريب» إلى الفالوجة والبصرة والموصل...
إننا، وأهم من ذلك كله في تجربة الصب والسحب من الرصيد الإنساني المشترك في المحيط العالمي الأوسع، أخذنا هذا العلم البديع الذي قام هذا المعهد ليخدم أهدافه وهو: الصحافة مكتوبة مسموعة مرئية، ولا أتجاوز إذا قلت إنه أدى دوراً هائلاً في حياة عالمنا.
إنكم، بالطبع، سبقتم وطوّرتم، مستعينين باختراقات التكنولوجيا، حتى أصبح الإعلام العابر لمسافات الكون أبرز ظواهر العصر وأقوى محركاته.
حضرات السيدات والسادة
على أن طبائع مراحل التطور كما تفتح باستمرار تقيد أحياناً فتضع حدوداً لما يمكن أن يأخذه الناس عن غيرهم، بل يتحتم عليهم أن يصنعوه في تجربتهم بآلامهم، لأن هناك مجالات يستحيل فيها اختصار المعاناة بالنقل أو بالمحاكاة، تجنباً لإعادة اختراع العجلة من جديد.
وأول هذه المجالات هو مجال الحرية ليس بمعناها الشاعري، بل باعتبارها توجّهاً إلى نظم دستورية وقانونية مضمونة بعقد اجتماعي وسياسي يفرض احترام الحقوق، وبحيث يستطيع أي مواطن حر أن يمارس مسؤولية المواطنة.
إن تجارب الحرية يصعب نقلها ويصعب انتشارها، وتعميمها بالحركة الطبيعية الذاتية لعملية التطور، بل تتحتم صناعتها من البداية إلى مقصودها، أو صيانة هذا المقصود والدفاع عنه، لأن العصور لا تتماثل والأحوال لكل منها أحكامها.
فعبر القرن العشرين بالذات تحددت القواعد والأصول عندكم، وأصبح ممكناً إرساء أصول وترسيخ بناء، وذلك لم يحدث بعد عندنا في الجنوب، حيث ما زالت الحدود مضطربة، وما زالت القواعد واهية، لأن الصراع من أجل التنوير والحرية والتقدم يتخبط محتدماً وتحت ظروف عصية.
بينها أن هذه المعركة في الجنوب تختزل في لحظة زمنية راهنة معارك واجهت الشمال متتالية، فهناك تعاقبت وتوالت عصور التغيير: الحرية والتنوير، الصناعة والتجارة، العدل الاجتماعي، المواصلات والاتصالات، الإنترنت وعالم النشر الإلكتروني، لكن عندنا تزاحم ذلك كله مع تباين الخلفيات والرؤى والضرورات.
وبينها أن تداخل العصور أحدث ضغوطاً ومؤثرات حادة، قومية ودينية وطائفية ومذهبية، أدت إلى خلط بين الأولويات، وإلى شطط في الوسائل قاد أحياناً إلى مجاهل تاهت بعيداً بالمقاصد.
وبينها أن المناخ الذي يحيط بعملية ولادة تجري على الهواء مباشرة، على قارعة الطريق وفي منتصف النهار، يصيب كل الأطراف بكل الأعراض التي تصاحب الانكشاف، ومنها الاضطراب والادعاء والإخفاء والتعمية.
وبينها أن نظم الحكم القائمة عجزت عن أن تؤسس لنفسها شرعية دستورية أو قانونية، ولم تعد سلطتها اختياراً وتفويضاً بل إملاء وقمع، تعطلت إزاءه دواعي الرشد السياسي والاجتماعي وإدارة الأزمات، وذلك ساعد على الإساءة لمشهد التطور عندنا ولصورته.
ومع أنني أتردد كثيراً قبل أن أضيف أي مسؤولية إلى حساب غير المعنيين في الأصل بها، فلا بد من القول ومن دون حرج أن العنصر الخارجي يؤدي دوراً شديد السلبية في منطقتنا من الجنوب، وبالتحديد الشرق الأوسط.
فهناك في قلب هذه المنطقة ثلاثة دواعٍ للخطر أشير إليها باقتضاب لكي أتجنب تكراراً شائعاً ومملاً على رغم صحته، وهي بالترتيب: الموقع الاستراتيجي وأهمية البترول حتى يظهر بديل له، وإسرائيل.
وهنا فمن الحق أن أضيف أن التفاعل بين حوار الشرعية الذي أصاب الدولة العربية الراهنة مع ضغوط التطور في الداخل على النظم مع دواعي الخطر من العناصر الخارجية، كل ذلك أدى إلى فجوات واسعة سمحت بالتدخل الدولي في الشأن الداخلي للمنطقة، على أنه لسوء الحظ أن بعض النفاذ الخارجي إلى المنطقة لم يكن دائماً ضيفاً ثقيلاً دعا نفسه، بل وصل مدعواً مرغوباً فيه لمناورات السياسة الداخلية وتوازناتها المتصورة أو المتوهمة!...
* أجزاء من محاضرة ألقيت في جامعة أكسفورد