ورد كاسوحة *
يمكن المرء الزعم أنّ التحركات المطلبية الأخيرة للحزب الشيوعي اللبناني قد أعادت الاعتبار إلى منظومات مفهومية، أسقطت من الحسابين التاريخي والنقدي، وأدرجت في السنوات الأخيرة في إطار ما سمّاه بعض اليسار «التائب»: «العدّة البائدة لأيتام الاشتراكية العلمية».
هذه «العدّة البائدة» حسب قاموس «اليسارويين الجدد» يمكن تلخيصها وإيجازها على النحو المفاهيمي التالي:
1ـــــ العدالة الاجتماعية: بما تعنيه هذه المفردة من توزيع عادل للثروة ومنع احتكارها، أي منع قصرها على قلة من الرأسماليين المتنفذين وأصحاب رؤوس الأموال، وخصوصاً إذا كانوا من المنتسبين إلى نادي الاقتصاد الريعي، المعتمد على الفورة النفطية والتمويل الخليجي. وهو نمط من الأنماط الاقتصادية الطفيلية التي تضمر عداءً مفرطاً لفكرة الاقتصاد المنتج، وتنقض جذرياً مبدأ اعتماد هذا الاقتصاد على الناتج المحلي، أي الصناعة الوطنية بشكل أساسي، وهو الأمر الذي تعانيه جمعية الصناعيين في لبنان، وتدعو يومياً إلى تجاوزه، عبر خطوات فعلية لدعم الصناعة الوطنية وإيقاف مسلسل تهميشها ووأدها، لمصلحة القطاعات المدعومة من الحلف الريعي النفطي المتنفذ، والمسيطر على مراكز النفوذ الأساسية في السلطة اللبنانية اليوم.
2 ـــ مناهضة الخصخصة ورفض بيع القطاع العام: وهذا يعني بشكل أساسي رفض الارتهان لوصفات المؤسسات الاقتصادية الدولية كالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي. فهذه المؤسسات ليست في حقيقة الأمر إلا أذرعاً اقتصادية لسياسة الهيمنة التي تمارسها الولايات المتحدة الأميركية في مناطق مختلفة من العالم، وخصوصا تلك المناطق الفقيرة والمعدمة اقتصادياً، والموسومة بدول الجنوب أو دول العالم الثالث. إذ تشكل سياسة ربط اقتصاديات الدول الفقيرة بتلك الغنية مدخلاً أساسياً لما يسميه سمير أمين بالتبادل غير المتكافئ. وهذا يعني إغراق أسواق دول الجنوب بالمنتجات الصناعية الوافدة من الشمال الغني، وجعلها بالتالي أسواقاً تستهلك فائض الإنتاج الرأسمالي العالمي. وهذه خطة لم تكن لتمر إذا ما رفضت دول الجنوب رهن قرارها الاقتصادي بسياسات تحرير التجارة وإلغاء الحواجز الجمركية و... إلخ. بكلمة أخرى في حال رفضها لنفوذ الرأسمال المعولم والشركات المتعددة الجنسية، مع ما لهذه الشركات من ارتباط وثيق ومعلوم بكارتيلات النفط والسلاح والمال، صاحبة المصلحة الأساسية في افتعال الحروب والنزاعات الدولية. وهذه نزاعات لم تدفع ثمنها سوى دول الجنوب الفقيرة، في أفريقيا والشرق الأوسط وسواها من بقاع العالم المبتلاة بالاحتلالات والمجاعات والفقر والتخلف و... إلخ.
بالعودة إلى واقع الخصخصة المتفاقم في لبنان، فإنّ مبادرة الحزب الشيوعي اللبناني منفرداً إلى الاعتراض على بيع ما بقي من قطاعات اقتصادية مملوكة للدولة يمكن إدراجها ـــــ أي المبادرة ـــــ في إطار سيرورة يسارية تاريخية، لم تتنكر كما فعل الكثيرون أخيرا لإرث اليسار التاريخي في رفض سياسات الرأسمالية المتوحشة، ونزوعها الدائم كما في الحالة اللبنانية إلى المزيد من الإفقار والتهميش، وخصوصاً عندما يتعلق الأمر بالطبقات الفقيرة والمعدمة، وحتى تلك المتوسطة منها.
3 ـــــ العدالة الضريبية: هنا يمكن الوقوع على أمر جوهري، يمثل مفصلاً في العلاقة الصراعية القائمة بين مراكز النفوذ الاقتصادي المهيمن والشرائح والطبقات الفقيرة والمسحوقة، ومفاده ـــــ أي الأمر الجوهري ـــــ امتناع الذراع الاقتصادية للسلطة اللبنانية ـــــ واستطراداً العربية على اعتبار أن اقتصاديات الدول العربية هي في معظمها ريعية ـــــ عن فرض ما يسمى الضريبة التصاعدية، وهي ضريبة من شأنها إذا ما طبقت التخفيف كثيراً عن كاهل الفقراء وذوي الدخل المحدود، وذلك لأن تطبيقها على الشريحة أو الطبقة الغنية يرتدي أولوية قصوى، على اعتبار أن هؤلاء المنتمين إلى قطاعات المصارف والعقارات والسياحة و... إلخ إنما يمتلكون فائضاً من السيولة المالية، يمكن إذا ما اقتُطع منها قليل أن تشكل رافداً أساسياً لخزينة الدولة.
وأهمية هذا الرافد المالي تغدو مضاعفة حين يتأكد لنا أنه لن يقتطع من مداخيل الفقراء وجيوبهم وذوي الدخل المحدود، وهو الأمر الذي لم يحصل بطبيعة الحال، ما أسهم في مفاقمة ضائقتهم المعيشية وتكريس واقعهم البائس مرة واحدة وأخيرة. فقد امتنعت السلطة اللبنانية عن تطبيق الضريبة التصاعدية واستعاضت عنها بسياسة ضريبية إفقارية، تحت شعار حماية القطاع المصرفي، والحفاظ على الاستقرار النقدي والمالي. وهذان شعاران يمكن بالمناسبة التعبير عنهما بعبارة أخرى: حماية مراكز النفوذ الاقتصادي، ذات الصلة بالاستثمارات الريعية النفطية التي يقتات عليها الاقتصاد اللبناني، ولا يعرف من دونها سبيلاً للبقاء والديمومة.
4 ـــــ البطالة والهجرة وفرص العمل: في واقع الأمر لا يمكن المرور على الحال المتردية التي يعانيها شباب لبنان اليوم، وبالتالي توصيف هذه الحال، ما لم نأخذ في الاعتبار الجذر الأساسي لها، وهو الجذر الذي دأبت أدبيات الحزب الشيوعي اللبناني ـــــ كما في التحرك المطلبي الأخير ـــــ على توصيفه على النحو التالي: نظام التحاصص السلطوي والطائفي، الذي أعاد إنتاج مفهوم العمل في لبنان، على قاعدة ربطه بفكرة الولاء والمحسوبية لا بفكرة الجدارة والجهد الإبداعي، وخصوصاً في المرحلة التي أعقبت إقرار اتفاق الطائف، أي في مرحلة الوصاية السورية التي كرست نفوذ أمراء الحرب والإقطاع الطوائفي والمال الريعي، وأطلقت نفوذهم في مؤسسات الدولة المختلفة، بحيث بات من المتعذر على الشباب الجامعي الباحث عن فرصة عمل إيجادها، ما لم يكن محسوباً على هذا الزعيم أو ذاك، أي ما لم يكن مندرجاً ومتورطاً في هذه الشبكة المافياوية من العلائق والمحسوبيات والخدمات... إلخ.
لذلك لا يجد المرء غرابة تذكر حينما يعاين واقع الإحباط وانسداد الأفق الذي يعانيه الشباب في لبنان، هذا الواقع الذي لا ينفك يتناسل، وينتج في كل مرة حالات مجتمعية شوهاء ومرضية تبدأ بالهجرة القسرية بحثاً عن لقمة العيش، ولا تنتهي عند حدود مجاراة السائد الطوائفي المبتذل وبالتالي تحوّل هؤلاء الشباب إلى جزء لا يتجزأ من نظام المحاصصة الطائفية القائم في هذا البلد منذ عام 1943.
5 ـــــ العلمنة وإلغاء الطائفية السياسية: في هذا الموضع تحديداً تكمن علّة النظام اللبناني الذي أنتجته دينامية الاستقلال عن الانتداب الفرنسي، على شكل تحالف طوائفي سمَّوه وقتها: «الصيغة اللبنانية»، وهو تحالف ارتدى أشكالا مختلفة على مر السنوات التي أعقبت الاستقلال، قبل أن ينفرط عقده في حرب عام 1975، حيث عمت الفوضى أرجاء لبنان، وتشظى وطن «الصيغة الفريدة» إلى مجموعة من الدويلات المحتربة في ما بينها. وذلك حتى عام 1989 حينما أوكل السوريون بإعادة إنتاج تحالف الطوائف، و«عوربته» ولو قسرياً، أي إلحاقه بقاطرة «العروبة» البعثية ذات الحمولة الإلحاقية والإلغائية التامة.
لم يقدّر لصيغة الطائف والحل السوري أن يعيشا أكثر من خمسة عشر عاماً، إذ جاء كل من القرار 1559 واغتيال رفيق الحريري ليشكلا طوراً جديداً من أطوار هذا النظام الطوائفي، الذي لا يكاد يستقر على حال حتى ينقلب على نفسه مجدداً، مفضياً إلى طور آخر أكثر سوءاً وبؤساً من سابقه.
لا ريب أن النظام الذي يعيد إنتاج الأزمات، ويخضعها في كل مرة لأطواره المتبدلة إنما هو في العمق نظام معطوب ومشوه. وهذا العطب أو التشوه يكمن في تغول الطوائف وتحولها إلى نظام وسيط يعمل على تعطيل مهمة أجهزة الدولة ومؤسساتها، ما لم تجير سلطة هذه المؤسسات لمصلحة الكتل الطائفية المهيمنة، ذات الارتباطات الإقليمية والدولية المختلفة. وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على انكشاف الداخل اللبناني ـــــ بفعل العامل الطائفي ـــــ على الخارج الإقليمي والدولي، وبالتالي تحول المصلحة اللبنانية الداخلية إلى مصلحة إقليمية ودولية في المقام الأول.
هذا يعني أن الطريق إلى تحرير القرار اللبناني من ربقة العامل الخارجي تبدأ من السعي الدؤوب إلى علمنة العملية السياسية اللبنانية، أي جعلها في معزل عن نفوذ الطوائف، وتطبيق مبدأ فصل الدين عن الدولة، بدءاً من كف يد رجال الدين عن التدخل في الشؤون السياسية، ودعوتهم إلى الاهتمام بالشأن الروحي فقط، وانتهاءً بوضع منظومة القوانين المدنية موضع التنفيذ الفعلي، من قانون الزواج المدني إلى قوانين الأحوال الشخصية... إلخ.
إذا أراد المرء الاستطراد والمضي قدماً في لائحة القضايا المطلبية التي طالما اعتبرها اليسار اللبناني، وفي مقدمه الحزب الشيوعي من أولوياته، فلن يجد ـــــ أي المرء ـــــ على الأغلب الوقت الكافي لاستعراضها والمرور عليها. وحسبنا هنا أننا سلطنا الضوء على بعض المفاهيم، التي غدت بفعل التعتيم الإعلامي والتضليل الأيديولوجي والدجل السياسي في طور الإغفال التام،
لولا بعض «الأشقياء» و«المقامرين» الذين حافظوا على موقعهم اليساري المخلص لمبادئ النضال المطلبي والنقابي، والمنحاز دوماً إلى الفقراء والمضطهدين وذوي الدخل المحدود، في ما يشبه رفضاً جذرياً من هؤلاء لهذه البنية السياسية الطائفية المهترئة، وبالتالي رفضاً لمنطقها الذرائعي الرث والمبتذل. وهو المنطق الذي غرّر في المقابل بالكثير من اليساريين ودفع بهم إلى مواقع لا تشبههم، ولا تمت بصلة إلى تاريخهم القريب، الأمر الذي أوقعهم في مطب الالتحاق بالكتل الطوائفية الكبرى والتحول إلى أبواق دعائية لها، على شاكلة ما حصل مع ما يسمى حركة اليسار الديموقراطي.
* كاتب سوري