محمد مصطفى علوش *
تزايد الحديث عن أهمية الوجود السلفي وخطره في لبنان بعد أحداث الضنية شتاء 1999، وكذلك بعد أحداث نهر البارد حيث اتهم الفكر السلفي ومتبنّوه في لبنان بالتعاطف والاحتضان لعناصر تنظيم فتح الإسلام الذي يخوض معركة ضد الجيش اللبناني شمالي طرابلس منذ ثلاثة أشهر. وقد كان خروج الجيش السوري من لبنان المتنفس للكثير من المرجعيات السلفية التي عادت للعمل الدعوي والاجتماعي من أوسع أبوابه، ملتقية ومتقاطعة في كثير من الأحيان مع توجهات «تيار المستقبل»، التيار السياسي الأكثر نفوذاً حالياً داخل الطائفة السنية.
وتعود البدايات الأولى لولادة الفكر السلفي في لبنان لبداية القرن العشرين مع الشيخ محمد رشيد رضا، صاحب مجلة «المنار» الذي لازم شيخ الأزهر الشيخ محمد عبدو فترة من حياته قبل أن يتحوّل لتبنّي الفكر السلفي والدعوة إليه. والشيخ المذكور هو من مواليد بلدة القلمون القريبة من مدينة طرابلس، الأمر الذي دفع بالعلماء المحبّين للشيخ للتعرّف بشكل أوسع وأكبر بالفكر السلفي الذي يحمله والذي كان يلقيه في روع هؤلاء خلال زياراته لبلدته ومدينتهفي ذلك الزمن، كان الأمر يقتصر على بعض النخبة من الإسلاميين، ولم ينفذ لعمق الشارع السنّي لغاية الستينيات من القرن الفائت، وذلك على يد الشيخ سالم الشهّال الذي لُقّب بالأمير من خلال تأسيسه لأوّل جماعة سلفية سميت جماعة «المسلمون»، ومن مبادئها الدعوة لنهج الكتاب والسنّة بفهم سلف الأمّة، والذي تحول بعد ذلك بفعل المتغيرات السياسية في لبنان ليصبح تنظيماً عسكرياً جهادياً سمّي «نواة الجيش الإسلامي» في السبعينيات من القرن الفائت.
خلال الاجتياح الإسرائيلي لبيروت عام 1982، شعر المسلمون السنّة في طرابلس أنّ الاجتياح سيكمل طريقه لمدينة طرابلس بعد أن يسيطر على كل من مدينتي بيروت وصيدا حيث الوجود الكثيف للسنّة في لبنان. فما كان من الإسلاميين، على اختلاف توجهاتهم، سوى الانخراط في العمل المسلّح تحت لاءات الدفاع عن إسلامية طرابلس وعروبتها بوجه الأحزاب القومية والشيوعية واليمينية المسيحية. وقد كانوا يمدّون كلّاً من بيروت وصيدا بالمال والمقاتلين، بعدما انضوى الكثير من السلفيّين، الذين كانوا قلّة آنذاك، تحت راية «حركة التوحيد الإسلامي».
بعد كسر الجيش السوري لشوكة الإسلاميين في مدينة طرابلس عام 1985، حاول السوريّون إدارة ملف الإسلاميين في لبنان على غرار غيره من الملفات. إلا ان علاقتهم بالسلفيين كانت الأكثر توتّراً من بين الإسلاميين. وقد شهدت أكثر من محطة حاسمة وقاضية، أبرزها عام 1996 حين قرّر السوريون إقفال أكبر جمعية سلفية هي «جمعية الهداية والإحسان» التي يرأسها نجل الأمير سالم، الشيخ داعي الإسلام الشهّال، وبالتالي إغلاق كل معاهدها ومراكزها المنتشرة في أكثر من مدينة ومنطقة لبنانية. بعد ذلك، شهدت الحالة السلفية عملية ولادات متكرّرة لكوادر ومراجع عديدة تتنافس في ما بينها على كسب الشارع السنّي، وتنوّعت تسمياتها ما بين سلفيّة جهادية وسلفية تربوية وسلفية قطبية (سرورية) وغيرها من المسمّيات.
مناطق انتشار السلفيّة
ينتشر الفكر السلفي حالياً في جميع المناطق التي يوجد فيها أهل السنّة في لبنان. وتُعتبر مدينة طرابلس وضواحيها الحاضن الأوّل للسلفيّين، حيث يوجد فيها أكثر من معهد ومسجد وجمعية ووقفية تتبع للسلفيّين الذين تجاوزوا مرحلة التنظيم الواحد والمرجعية الواحدة، وقد امتد نفوذهم وانتشارهم لمناطق واسعة مثل الضنية وعكار.
وها هي مدينة طرابلس تشهد اليوم ولادة أوّل جامعة سلفية ـــــ جامعة الفيحاء ـــــ وفيها أكثر من اختصاص، وهي تتبع «لوقف التراث الإسلامي» الذي خرج من رحم «جمعية الهداية والإحسان» والمموّل من جمعية «إحياء التراث الإسلامي» في الكويت التي من المؤمل أن تفتح أبوابها خلال سنة من اليوم للراغبين في الدراسة فيها.
على رغم ذلك، فإنّ التنافس على أشدّه بين تيّارين سلفيّين: الأوّل بزعامة مؤسّس التيار السلفي في لبنان الشيخ داعي الإسلام الشهال المشرف على «جمعية الهداية والإحسان» وإذاعتها «الكلم الطيب» وحوله مجموعة من الوقفيات والجمعيات التي أسسها تلامذته، والثانية جمعية «وقف التراث» المشرفة على الجامعة المذكورة والعاملة على استقطاب ما عدا ذلك من وقفيات، والتي يرأسها صفوان الزعبي. إلا أن أحداث نهر البارد ألقت بظلالها الكثيفة على الوجود السلفي برمّته في لبنان.
إذا استثنينا مدينة صيدا حيث الوجود القوي للجماعة الإسلامية، فإنّ الوقفيات والجمعيات السلفية عددها قليل ومعظمها يتلقّى دعمه من طرابلس.
أما في البقاع، فلعلّ أهم منطقة يشغلها الفكر السلفي هي مجدل عنجر حيث يكثر الحديث عن أنها تحوي عدداً خطيراً من السلفيين المتشدّدين، وأنّها، إضافة إلى احتلالها المركز الأوّل للوجود السلفي في البقاع، تحتلّ المركز الثاني على مستوى لبنان بعد مدينة طرابلس. والسبب في استقطابها لهذا الكمّ من السلفيّين هو استقرار أحد كوادر السلفية في بلاد الشام الشيخ زهير الشاويش فيها. وقد لازم الشاويش صديقه الشيخ محمد ناصر الدين الألباني فترة طويلة من حياته، قبل أن تفرّق بهم السبل في تلك البلدة. وقد أسس داراً للنشر في بيروت تسمّى «المكتب الإسلامي» التي قامت بطباعة ونشر أمّهات الكتب السلفيّة المعتمدة، فضلاً عن النشرات والكتيّبات الدعوية وغيرها. ثم تطور الفكر السلفي في هذه المنطقة، مستفيداً من قدوم تلامذة سابقين للشيخ الشاويش ممن ذهبوا للدراسة في المدينة المنوّرة، أبرزهم وأهمهم الشيخ السلفي عدنان محمد أمامة، أحد مؤسّسي اللقاء الإسلامي المستقلّ بعد خروج السوريين من لبنان.
في الجنوب حيث الاحتلال الإسرائيلي، فإن الفكر السلفي في تلك المحافظة يعتبر الأضعف من بين المحافظات اللبنانية على رغم كثرة البلدات والقرى السنية. والحديث عن بلدة العرقوب، إحدى القرى السنّية ذات الانتشار الأوسع للسلفيّين جنوباً، يعتبر مثالاً مناسباً. فقد وفد الفكر السلفيّ إليها قادماً عام 2000 مع الشباب العائد من التهجير الإسرائيلي عام 1982 بعد احتكاكه وتتلمذه على بعض المشايخ السلفيين في بيروت وصيدا.
ولقد مكّنت الحالة المزرية التي تعيشها البلدة الشباب السلفي القادم من تركيز وتوسيع نفوذه من خلال ما يقوم به من بناء للمساجد المهدمة وفتح للمراكز الرعائية الصحية والاجتماعية وتقديم المساعدات العينية للمحتاجين.
وفي جميع الأحوال، يتكاثر الوجود السلفي في لبنان يوماً بعد يوم، ويتعزّز في أكثر من منطقة لأسباب عديدة. وفي رأيي المتواضع، بناء على متابعتي لهذا الملف، فإنّ الفكر السلفي قابل للتعايش مع النسخة اللبنانية للعيش المشترك إذا تم التعامل معه من قِبل الساسة والأمنيين والإعلاميين بشيء من الموضوعية وعدم السطحية، وإلا فإنّنا أمام مفخّخات أمنية بشكل مستمر.
* باحث متخصّص في الشؤون الإسلامية