إسماعيل بدران
حرب تمّوز بعيون... بحرينية؟

لا أدري أين يقع تصنيف كتاب الإعلامية خولة مطر عن «يوميات بيروت المحاصرة» في حرب تموز 2006. فلا هي تغطية إعلامية أو وصفية وحسب، ولا هي بالتأكيد أرشفة صحافية لوقائع. ذلك أنها يمكن أن تحمل كل هذه التصنيفات معاً في رسائل يومية عاجلة وحارة ومقتضبة تتميّز بحس إنساني عميق وبلغة شاعرية شفافة تكاد تكون أقرب إلى مذكرات جندي في معركة من رسائل صحافي يغطي الأحداث.
فالكاتبة مطر تعبّر هنا عن «انخراطها» في حرب تموز مقاتلةً منذ رسالتها الأولى من الرسائل الـ36 لجريدة «الوقت» البحرينية حيث تقول في صباح أربعاء بداية العدوان: «فيما أصبحت أصوات كسر جدار الصوت من الطائرات الحربية الإسرائيلية جزءاً من روتين أيام اللبنانيين، كانت أصواتها أمس مختلفة، فهي تأتي رداً غاضباً على أولئك الأبطال الذين يقدمون حياتهم ثمناً لكرامة أمة والقادرين على كسر حاجز الخوف أكثر من قدرة الـ«أف 16» على نشر الرعب!!».
ولولا إفصاحها في إحدى رسائلها في منتصف أيام الحرب، أو إفصاح الناشر عن جنسيتها البحرينية لما كان تيسّر للقارئ اكتشاف هوية خولة مطر. ذلك أنها قد تكون في لحظة لبنانية تغطي الحدث من أحد شوارع بيروت أو ضاحيتها الجنوبية خاصةً، أو غيرها من الضواحي أو من قرية أو مدينة جنوبية من موقع وإحساس وانتماء أهلها وسكانها المجبولين بترابها والممتلئين بهوائها وهواها... أو فلسطينية تبثّ رسائلها عبر الأثير من مخيمات شاتيلا أو برج البراجنة أو غيرها من المخيمات شديدة البؤس.
في وصفها الموجز والعميق لليوم الثاني على بدء العدوان تقول مطر «إنها الحرب كما يمكن أن تكون، الحرب على ما بقي من أمل في المقاومة للسياسات التي ترسمها واشنطن وتل أبيب ليشاركها في التنفيذ كثير من أنظمتنا العتيدة!.. إنها الحرب مثلما كانت دوماً، حيث لبنان الضعيف القوي بإرادة مقاومته يصرخ والعرب يتفرّجون... أمام صور الأطفال والنساء والشيوخ في بنت جبيل ورميش وكفركلا وضاحية بيروت الجنوبية والغبيري، صور للبنانيين تقطّع أجسادهم القذائف الإسرائيلية وتحوّلهم إلى أشلاء». فتكاد خولة مطر هنا أن تمزج الزمن العربي الراهن برداءته في العراق وفلسطين ولبنان بكلمات مقتضبة وشديدة الغضب. لكن هذه المقاومة «البيروتية» في رسالتها السادسة تؤكد أن «بيروت في يوم حصارها اختنقت بروائح الدخان المنبعثة من التفجيرات وروائح الموت الذي توزعه الطائرات والبوارج الإسرائيلية... غبر أن أهلها الصامدين بروح المقاومة يقولون لأشقائهم العرب عند السؤال عنهم «نحن بخير طمئنونا عنكم».
تقارب مطر حرب تموز بشكل يختلف عن التغطية الإعلامية التي ينتهجها مراسل غير لبناني أو أجنبي من أحد الفنادق الفاخرة. فالكاتبة هنا راوية للحظات هي حرب عليها شخصياً مثلما هي على سكان لبنان ومواطنيه. وعلى الرغم من الطابع اليومي والحدثي الذي يطبع «يومياتها»، فإن التاريخ يحضر مادةً معرفية في رسالتها العاشرة التي وضعت لها عنواناً أدبياً إنسانياً متميّزاً: «ثرثرة فوق قبور مفتوحة» حيث تتجاوز الراهن لترحل في تاريخ أسباب الحروب في المنطقة، ثمّ تنقل عن لسان أحد الجنوبيين: «أبو فؤاد الذي عاصر الكثير من الحروب الإسرائيلية على العرب يتذكر تلك الأيام بألم شديد فيقول: كلما قلنا هذه المرة الأخيرة عادوا من جديد، وكلما أعدنا ترميم بيوتنا جاؤوا ليهدموها فوق رؤوسنا، لكننا لن نترك».
إنها خولة مطر تروي نفسها على لسان أبو فؤاد! وتختلف عن كثير من الذين سجلوا يوميات الحرب حيث لا أهمية، بل لا ذكر أحياناً للأسماء، سواء للضحايا الشهداء أو المهجرين أو الصامدين... فيحضر عندها الناس هنا بأسمائهم الشخصية أي بشخصياتهم وذواتهم الحقيقية ومشاعرهم وقلقهم وشجاعتهم وخوفهم لا بأعدادهم كأرقام تفقد هويتها وإنسانيتها، فهي تتحدث عن ومع أبو علي من بلدة حولا الحدودية، وعن علي محيي الدين الذي لم يتمكن من إحياء ذكرى وفاة والدته، وعن بنت النبطية سعاد الفاقدة للبصر والمتمتعة بالكثير من البصيرة، وعن مسؤولين في مخيم شاتيلا بأسمائهم وبالتفاصيل من اهتماماتهم الشخصية والحميمية، فتذهب كتاباتها وإن على عجالة إلى عالم الرواية لغةً وصيغة.
ورغم انحيازها القاطع للمقاومة في صلب «روايتها» للأحداث، فإن صدق تلك الرواية بعمقها الإنساني يتبدّى جلياً في وصفها لموقف رئيس الوزراء فؤاد السنيورة فتقول: «التصق رئيس الوزراء اللبناني بشعبه ومثّلهم بشكل رائع أمام وزراء الخارجية العرب، حتى أنه بكى تأثّراً على وطنه الذي يذبح إنساناً وأرضاً وشجراً وبحراً. فاضت مشاعره علّها تتوزّع عليهم...».
على الأرجح، بل من المؤكد أنه لم يدر في خَلَد خولة مطر أن تتحول رسائلها يوماً ما إلى كتاب تنشره دار رياض الريس، أو بصراحة أكثر أنها ستنجو من هذه الحرب مثل بقية مَن نجا من السكان في بيروت ولبنان، ولا يبدو أن ذلك كان من اهتمامها في تلك اللحظات، إذ كان الهمّ الأساسي لديها في كل كلمة همّ الناس... الناس العاديين الفقراء... الشهداء، فهي تختم رسالتها الـ27 بمقطع شديد التعبير فتقول: «ومعذرة إن كان بعض الدمع قد التحق بالكلمات القادمة من حضن الموت عندما يصبح مادة للكتابة... معذرة!!».
تختتم خولة مطر رسالتها الأخيرة رقم (36) بـ«لبنانية» معتّقة في رسالة لجميع اللبنانيين فتكتب «بعد أن هدأت أصوات الغارات واغتسلت البحار بملحها، والجبال والوديان والسهول والمدن بدماء أبنائها الطاهرة، يتوجّس اللبنانيون من القادم. فهم الذين طحنتهم حرب أهلية لأكثر من سبعة عشر عاماً يدركون معنى أن يرفع اللبناني سلاحه في وجه أخيه خصوصاً أنهم يحتفلون بنصر قدّمه لهم أبناء الجنوب ليكون لهم يتقاسمونه كما تقاسموا الألم وكسرة الخبز وحبّة الرز وكأس الشاي المحلّى بقصب السكر...».
هنا رفعت بيروت وكل المدن اللبنانية الحصار عنها بسواعد أبنائها الرجال منهم والنساء والأطفال، وغسلت نساؤها الأكفّ والأقدام بمياه الليطاني... وطارد أطفال الجنوب على دراجاتهم الجنود الإسرائيليين الذين يقولون إنهم باقون في الجنوب ولم يُرَ لهم أثر حتى الآن!
إنها رسائل محاربة، رسائل تمتزج بالدم والدموع وبرائحة دخان الحرائق ودويّ الانفجارات وبالكثير الكثير من الحزن والغضب، لكن أكثر من كل ذلك بالاعتزاز الصادق وبإرادة المقاومة والأمل.
* المستشار الإعلامي للاتحاد العمّالي العام




العنوان الأصلي يوميات بيروت المحاصرة: حرب تموز 2006
الكاتب: خولة مطر
الناشررياض الريّس للكتب والنشر