strong>يحيى فكري *
نشرت صحيفة «المصري اليوم» القاهرية، يوم الاثنين 27 آب/أغسطس، صورة لأسرة مصرية تقف أمام مقر وزارة المال في مصر، وتحمل لافتة مكتوباً عليها «للبيع: عائلة مصرية». وقد هدف أبو الأسرة، الذي كان يعمل سابقاً في العراق وعاد منها صفر اليدين، إلى إحراج الحكومة بهذا الموقف الاستعراضي. فهو، كملايين المصريين، لم يعد قادراً على توفير الطعام لأسرته.
هذا المشهد هو تكرار لواقعة حدثت خلال الشهور السابقة على انتفاضة 1977 في مصر، حين قام أحد الآباء الفقراء بعرض أسرته للبيع في ميدان التحرير بالقاهرة، تعبيراً عن يأسه من توفير الطعام لها. وقد نسج الروائي يوسف القعيد من هذه القصة وقتها روايته الشهيرة «شكاوى المصري الفصيح».
اللافت أن هذه الواقعة تجري اليوم في سياق موجة احتجاجات جماهيرية، حدثت على امتداد الشهور المنصرمة من عام 2007، وهي غير مسبوقة في تنوعها واتساعها منذ انتفاضة 1977. فمع مطلع العام الحالي، انطلقت سلسلة إضرابات عمالية كان مركزها شركات النسيج، لكنها امتدت إلى شركات الكيماويات والمحاجر والمطاحن والنقل، ونجحت في فرض مطالب العمال على إدارات المصانع. وأدّت في بعض الحالات إلى سحب الثقة من النقابات الموالية للحكومة، كما حدث في مصانع غزل «المحلة» التي أضرب فيها حوالى 24 ألف عامل.
ثم تعدّت الموجة سريعاً القطاعات العمّالية المنظمة، لتمتدّ إلى الجماهير غير المنظمة في القرى والأحياء الفقيرة. هكذا شهد الصيف تواصلاً لا ينقطع لتجمهرات متفاوتة في حجمها وحدّتها، بدأت بالاحتجاج على تدهور الخدمات الاجتماعية، حيث خاض أهالي «قلعة الكبش» في حي السيدة زينب معركة ضد هدم الأكواخ التي تؤويهم، وانفجرت تظاهرات في محافظات عديدة ضد نقص المياه، كان أبرزها قيام الآلاف من سكان قرية «البرلس» في كفر الشيخ بقطع الطريق الساحلي الدولي والاعتصام هناك للمطالبة بتوفير المياه.
وفي سابقة قد تكون الأولى منذ زمن، قام سكان بعض المراكز في بني سويف وسوهاج والجيزة باحتلال المخابز والاستيلاء على الخبز، لتوقّف المخابز عن إنتاج الرغيف المدعوم واقتصار إنتاجها على الخبز الفاخر. أما أبرز احتجاجات صيف 2007 الساخن فكانت المواجهات التي حدثت ضد التعذيب. ففي أسبوع واحد اقتحم الأهالي ثلاثة من أقسام الشرطة في شمال سيناء والمنصورة والعمرانية بالجيزة. وفي المنصورة قاموا بحرق عشرات من عربات الشرطة. أضف إلى ذلك عدّة تجمهرات أخرى، كان أبرزها في مرسى مطروح وآخرها في شبرا الخيمة، حدثت جميعاً للمطالبة بمحاكمة ضباط شرطة تسببوا في مصرع مواطنين، أو إلحاق حروق وإصابات بالغة بهم نتيجة للتعذيب.
التعذيب في مصر ليس بالجديد، فقد استخدمه نظام مبارك دائماً كأداة لإحكام سيطرته. ولم يقتصر في عهده على المناضلين السياسيين، بل على العكس من ذلك، كان ضحايا التعذيب في زمنه بشكل رئيسي من المواطنين الفقراء العاديين، إذ استُخدم وسيلةً لفرض سيطرة النظام الاجتماعية. وسنجد عدداً يقدر بالمئات سقطوا قتلى بالتعذيب في سجون مبارك، وهؤلاء هم من نجحت تقارير حقوق الإنسان في تقصّي حالاتهم، فيما هناك العديد من الحالات غير المعروفة، وهناك مئات الآلاف الذين تعرضوا لصنوف من التعذيب وخرجوا بعاهات بعضها مستديم. الجديد هو احتجاجات الجماهير، وتعبير الأهالي في مناطق عدة، بالتتالي ومن دون تنسيق، عن غضبهم بجرأة وحدّة ضد ما يتعرضون له، ما أجبر النظام فعلياً على تحويل بعض الضباط إلى المحاكمة.
لا يقتصر ما شهده 2007 من احتجاجات على ما سبق، فهناك الكثير من التحركات الأقل والأصغر شأناً تحدث كل يوم، كقيام جمهور من الأقباط بالتظاهر لأول مرة ضد راعي كنيستهم، أو قيام أولياء أمور الطلاب في إحدى المدارس بالتظاهر ضد إدارة المدرسة، وهكذا دواليك. إلا أن تلك الدينامية جاءت تعاكس حالة قوى المعارضة السياسية في مصر، بعد فشل حركة التغيير في تحقيق أهدافها. فقد جُدّد لمبارك، وأُجريت التعديلات الدستورية المطلوبة لتمرير خطة توريث الحكم، واندفع قطار الخصخصة بقوة على يد حكومة رجال الأعمال الجديدة، ما أسفر عن ارتباك ويأس أصابا المناضلين السياسيين، وكأن ما فعلوه طوال السنوات الماضية، ومنذ انطلاق حركة التضامن مع الانتفاضة عام 2000، كان بلا جدوى: التحركات الواسعة لدعم الشعب الفلسطيني، والتظاهرات المناهضة للحرب على العراق، ومن بعدها التظاهرات المطالبة بالتغيير الداخلي تحت شعار «كفاية»، إلخ.
ما لم يدركه المعارضون المصريون أن باباً انفتح على أيديهم بات من الصعب إغلاقه، اللهم إلا بدماء كثيرة لا يقدر نظام مبارك حتى الآن على دفع تكلفتها. صحيح أن الجماهير تابعت تظاهراتهم خلال السنوات الماضية بسلبية وعزوف عن المشاركة، لكنها اكتشفت فيها وسيلةً ملائمةً للتعبير عن غضبها ورفضها لما تعانيه. لقد تجاوزت حالة الفوران والرفض السياسي في مصر حدود تظاهرات الطلاب والمعارضين لتبدأ بالانطلاق بتوسع وسط الفقراء من العمال والفلاحين والمهمّشين. هكذا مثلاً قام أهالي قلعة الكبش بعفوية ومن دون ترتيب بالتظاهر أمام مبنى نقابة الصحافيين وسط القاهرة، هذا الموقع الذي شهد العديد من تظاهرات «كفاية»، وكأن المكان قد تحول في أعين الجماهير، التي تابعت تظاهرات «كفاية» في الشارع وعلى شاشات التلفزيون، إلى مَعْلم للتعبير عن الاحتجاج يتجمع عنده من يشرع في إعلان غضبه ورفضه.
هل ستنجح المعارضة المصرية في تجاوز ارتباكها والتفاعل مع ما يحدث في الشارع؟ لا يمكن الجزم بإجابة عن هذا السؤال الآن. الشارع في مصر يزداد فوراناً يوماً بعد يوم، ويمكن القول بقدر من الثقة إن ما يحدث قد يسفر عن انتفاضة شبيهة بانتفاضة 1977. ولو استمرت الحال على ما هي عليه وحدثت انتفاضة في ظل الشروط الحالية لحركة الاحتجاج، فالمؤكد أنها ستنتهي إلى لا شيء. أما إذا نجحت قوى المعارضة الجذرية، التي أطلقت حركة التغيير، في تجاوز ارتباكها وإعادة إحياء نفسها على أسس اجتماعية جديدة، وكبديل قادر على تجميع الجماهير الغاضبة حوله، فقد يصبح ساعتها احتمال حدوث تغيير حقيقي في مصر قابلاً للتحقق، وفي وقت ليس ببعيد.
* صحافي مصري