عبد الإله بلقزيز *
من الذين يدافعون عن أطروحة تخلي الدولة عن دورها الاقتصادي نفر يقول إن فوائد ذلك التخلي لا تعود على الاقتصاد وحده، على حريته ونموه دون كوابح، ولا على القوى الاقتصادية وقوى الرأسمال بخاصة، واتساع فرصة الاستثمار والربح لديها، ولا حتى على مجموع المستهلكين الذين ستتوافر لديهم حاجات كانت محجوزة أو غير متاحة في حقبة سيطرة الدولة على الاقتصاد والإنتاج... إلخ، بل ستتخطى عوائدها ميدان الاقتصاد إلى الميدان السياسي، حيث سيكون لتراجع هيمنتها الاقتصادية كبير أثر على تحكمها السياسي أيضاً، أو قل تحكمها في المجال السياسي. وسوف تتراجع ـــــ بالتالي ـــــ قدرتها على ذلك التحكم كي ينفسح المجال أمام تعاظم مطَّرد لسلطة المجتمع ولمساحة الحريات في الحياة السياسية...
لعل من حسنات هذه الأطروحة أنها تقيم ربطاً بين السياسة والاقتصاد، غير أن من سيئاتها أنها تقيمه على نحو أشوه. إن الفرضية التأسيسية التي يقوم عليها موقفها في هذا الباب هي أن ما يعانيه مجال السياسة من حجز وضيق، له في الاقتصاد ما يفسره، وهذا الذي يفسره ليس شيئاً آخر سوى العلاقة التالية: احتكار السياسة والسلطة ناجم ـــــ ومتأسس ـــــ على احتكار الثروة، وبصيغة أخرى: احتكار الثروة يقود بالضرورة إلى احتكار السلطة. هكذا تجرّب أيديولوجيا الليبرالية الطفيلية إضفاء مسحة «نضالية» على محاولتها سرقة الأملاك العامة، محاولة كسب قسم من النخب والعاملين في المجال العام ـــــ دفاعاً عن الحريات وعن الديموقراطية في وجه النظام التسلطي ـــــ وتزويده بفرضية زائفة عن الأساس التحتي (المزعوم) لظاهرة احتكار السلطة.
وقد يوجد ـــــ وقد وجد فعلاً ـــــ من يصدّق أن التناقص من سلطان الدولة على الاقتصاد معبر نحو إضعاف سلطانها السياسي أو تحجيم المنزع التسلطي للنظام السياسي. وكان هؤلاء ـــــ بكل أسف ـــــ من جمهور سياسي وأيديولوجي آخر غير الجمهور الذي تنتمي إليه تلك القوى الطفيلية.
يمكننا وصف أطروحة هذه القوى عن التلازم بين احتكار السلطة واحتكار الثروة بأنه حق يراد به باطل. هو حق من دون ريب، لأن التلازم ذاك قائم بقوة الأشياء وبحكم الصلة التي تشدّ السياسة إلى الاقتصاد. لكنّه باطل حين تعلنه قوة تملك السلطة وتدّعي أنها خارجها. لو أتى التعبير عن هذه العلاقة بين الاحتكارين على لسان ممثلي الطبقة الوسطى أو القوى المنتجة (العمالية مثلاً) لاستقام معناه وثبت صدقه، أما أن ترتّله فئة أشبه ما تكون بـ«النومنكلاتورا» الروسية: خرجت من أحشاء الدولة ونهبت أملاكها وما فتئت تتحكم بقرارها، فذلك هو البهتان بعينيه.
لا بأس في بعض الإغضاء المؤقت (قل أيضاً المنهجي) عن الوظيفة الأيديولوجية التي تكلها تلك القوى لعملية الربط بين احتكار الثروة واحتكار السلطة، ثم لا بأس في التسليم معها بصحة ذلك الاقتران بين الاحتكارين في حالتنا العربية، ومن التسليم (المنهجي) بأنها قوة اجتماعية خارج السلطة على ما تدعيه. لا بأس في ذلك كله كي نفحص ـــــ على جهة المنطق والواقع ـــــ مقولتها. يترتب عن ذلك التسليم أكثر من سؤال:
أول سؤال عن الاقتران القائم بين الاحتكارين، أو على وجه الدقة ـــــ علاقة التحديد Determination في بنية الاقتران. يذهب خطاب هذه الليبرالية الطفيلية ـــــ في سعيه إلى تبرير شرعية تفكيك وظائف الدولة ـــــ إلى التشديد على أن احتكارها الثروة هو القاعدة التي عليها ينهض احتكارها للسلطة. لنقلب طرفي العلاقة فنجعل العادل المحدد (هو العامل) السياسي لا الاقتصادي فنتساءل: أليس احتكار السلطة سبباً آخر لاحتكار الثروة؟ ألا تتولد الامتيازات وتنمو المصالح في سياق امتلاك السلطة واستعمالها والانتفاع من النفوذ السياسي؟ إنه لكذلك في الدول التي تسيطر فيها نخب لا تتمتع بالشرعية الديموقراطية والشعبية، والتي لا توجد فيها مؤسسات رقابية تنهض بدور الاحتساب على الحاكمين. تصبح السلطة في هذه الحال معبراً نحو الثروة لا العكس. ليسأل الطفيليون أنفسهم: كيف جمعوا ثروتهم ومن أين؟ أليس من الدولة؟ متى تكوّنوا كطبقات مالكة: قبل أن يتسلطوا على الدولة أم أثناء سلطانهم؟
هذه واحدة، الثانية أن التسليم بمعادلتهم يستدعي سؤالاً ثانياً يستطلع ما وراء ـــــ أو ما بعد ـــــ إمساكهم بمقاليد الثروة: أليس لانتقال الثروة من احتكار الدولة إلى احتكار طبقة جديدة ما يجعله مقدمة لاحتكار هذه الطبقة للسلطة ما دام الاحتكار الأول يقود ـــــ في ما يصرحون به ـــــ إلى الاحتكار الثاني. ولعلنا نحسب أن هذا ما إليه يرمون حين يندفعون إلى الاستيلاء على الاقتصاد بكل الطرق والوسائل. ماذا حدث في روسيا يلتسين ومصر السادات: خرجت فئات طفيلية مترفة من أحشاء الدولة والقطاع العام، بعد جولات وصولات في النهب العشوائي والمنظم أكلت الأخضر واليابس من ممتلكات الشعب، ولم تتوقف عن طلب لمزيد، فنظمت جماعاتها تنظيماً محكماً من أجل الضغط على مراكز القرار، ومارست الضغط عبر الصحافة التي اشترت أقلامها، ونوابها الذين اشتروا أصوات الناس. ثم ما لبث أن جيء برموزها إلى المراكز الحساسة في السلطة كي تشرف بنفسها على عملية بيع ما تبقى من أملاك عامة... إلى شركاتها!
بقي سؤال ثالث ذو طابع اعتراضي على خطاب القوى الطفيلية في احتكار الدولة للاقتصاد: هل الثروة التي تسيطر عليها الدولة ملك طبقة ونخبة (حاكمة) أم ملك الشعب؟ إن أية طبقة حاكمة في الأرض، وأياً كانت درجة فسادها ونهبها، لا تقوى على نفي أن الثروة ثروة المجتمع والشعب وأنها تنتمي إلى الحق العام، وليست ثروة خاصة بها. الطفيليون وحدهم يجترئون على إسقاط ملكية الشعب لثروته حين يطالبون بعرضها للبيع (وحتى من دون مزاد علني!) وكأنها حق محقوق لهم!
لقد أطلقت أيدي القوى الطفيلية في ثروة المجتمع من غير حساب أو ردع. ومن المؤسف أن القوى الاجتماعية السياسية والثقافية التي ظلت ـــــ تقليدياً ـــــ عيناً رقيبة على الحقوق الاجتماعية وحُرمتها، ولساناً نقدياً حاداً لكل أنماط الاستغلال والفساد الاقتصادي والمالي، والتي أحلت المسألة الاجتماعية ومسألة توزيع الثروة في قلب خياراتها البرنامجية، وهي قوى اليسار الاشتراكي، انصرفت عن هذه الأولوية وعن هذه المهمة إلى «النضال» من أجل الليبرالية السياسية، فكانت خير عون ـــــ وإن لم تحتسب ـــــ لمن يبتغي نهب ما بقي مما يقبل النهب!
* كاتب عربي