هشام نفاع *
هناك كلمات يصعُب استيعابها حين يتم توطينها في عبارة واحدة. إحداها هي عبارة «رؤيا بوش» أو «رؤية بوش»، وكلتا الصيغتين دارجتان. لو اكتفينا بالمعنى المقتضب لـ«رؤيا»، حلم المنام أو اليقظة، لما كانت حاجة للخوض في كل هذا، ولقلنا إن بوش يتحدث من ضباب أحلامه. لكن المشكلة، أن هناك معاني أوسع للكلمة تقع على الأسماع بإيحاءات إيجابية، وهو ما من شأنه أن يخدع السامع وعقله. المشكلة ذاتها قائمة في كلمة رؤية، وهي تفيد ما يُرى بالعين أو القلب، بالبصر والبصيرة. أي أن السيّد بوش سيتراءى في الحالتين كمن يملك مشروعاً جدياً وإيجابياً، وهو ما يقتضي وقفة متمعّنة.
يعود استصعاب استيعاب العبارة إلى استحالة التوفيق بينها وبين ما تركته يدا بوش، ولا تزالان، من أفعال على الأرض. فالتاريخ السياسي القصير لهذه الشخصية يعجّ بكل أشكال الدمار والتدمير، وخصوصاً في المشرق العربي. من العراق إلى فلسطين فلبنان، تلعب السياسات والمشاريع التي يديرها بوش، بما يمثله من قوى ومصالح، دور البارود الناسف، فعلاً ومجازاً. إن تلك السياسات بلغت حداً من التوحّش بحيث بدأت بإحراق أذيال أصحابها، حتى صرنا نرى بوش اليوم محط انتقاد لاذع حتى من شركائه في حزبه الجمهوري (بدرجات لم تصلها معظم أنظمة العرب، ويا للعجب).
في باب الاستصعاب أعلاه، لا حاجة للتوقّف كثيراً عند معضلة أن يكون أصلاً لدى شخص في مثل «ذكاء» بوش... رؤيا!
في الخريف القادم تنتظرنا إحدى شظايا تلك الرؤيا التي كانت انفجرت في خطاب الرئيس الأميركي الشهير عام 2002. فهو سيُدخلنا في ما بات يُعرف بـ«مؤتمر دولي»... وعلى الرغم من هرولة بعض العرب، تطوّعاً، إلى فرض هذه التسمية، يجب التدقيق في أنّ ما يقترحه سيادة الرئيس هو «لقاء دولي» للشرق الأوسط. لقد افتتحنا هذا الكلام بإشارات لغويّة لأغراض سياسية، ومثله التنويه السالف الذي لا يأتي من باب التشدّد في التسميات، بل منعاً لتغييب معاني الأشياء داخل الإعصار الإمبريالي الأميركي الذي يضرب منطقتنا بوحشية.
تذكير: على امتداد عقود، كان «المؤتمر الدولي» هو الآلية التي أصرّت عليها منظمة التحرير الفلسطينية، ومعها الكثير من الحلفاء العرب والأمميين، لإدارة مفاوضات سياسية متكافئة حول القضية الفلسطينية، وهو ما يعني إجراء المفاوضات بمشاركة أطراف الصراع ومندوبي المجتمع الدولي، ممثلاً بالأمم المتحدة. فرادة المؤتمر الدولي أنه لا يتيح لحكّام إسرائيل التملّص من القرارات الدولية المُقرّة التي يجب اعتمادها بهذا الشأن. أما ما يقترحه جورج بوش، فليس أكثر من لقاء بهذا المستوى التمثيلي أو ذاك، لا يجري الإعداد له كدفيئة لإجراء مفاوضات حقيقية، بل كخيمة مؤقتة مزركشة ينتهي دورها بمجرّد انتهاء مراسيمها المتلفزة. هنا، لن يجري إعداد مسوّدات تهيّئ للخوض في المياه العميقة للقضايا الأساسية التي تؤلف الصراع المستمر منذ نحو ستة عقود؛ لن تكون مرجعية واضحة للتفاوض، هي القرارات الدولية 194، 338، و 242؛ لن تكون أيّة جداول زمنية للتقدّم في المحادثات وضبطها؛ وبالتالي، ليس هناك ما يُلزم رسمياً أو مُسبقاً خروج لقاء كهذا بأي شيء.
أخطر ما في هذا المقترح الأميركي أنه عبارة عن صورة موازية لما بدأ نظام الولايات المتحدة بفرضه بشراسة مطلع هذا العقد، متمثّلاً بالعدوان على العراق واحتلاله وتدميره. فقد ركلت واشنطن جميع الأصول والمواثيق الدولية المتفق عليها وقادت حرباً همجيّة حاولت صبغها بأصباغ دولية، عبر إقامة حلف حربي دون أية شرعية أو مرجعية من مؤسسات الأمم المتحدة. هنا أيضاً، في سياق اللقاء الدولي برعاية بوش، يجري تجاوز القرارات والمرجعية الدولية، وتأليف محفل يلفّه البريق الدبلوماسي ويتراءى كأنه دولي، لكنه في الحقيقة لا يتجاوز مساحة حظيرة السياسة الأميركية.
في مواجهة ذلك، يجب التأكيد أنه لا توجد حاجة حقيقية ولا مبرر جديّ لإعادة اختراع ذلك الحل، الذي يشكّل أكثر الحلول قابلية للتطبيق، والمقبول على أوسع الشرائح، فلسطينياً وإسرائيلياً ودولياً: أي انسحاب إسرائيل، بجيشها ومستوطنيها وجدارها وحواجزها وسيطرتها الجوية والبحرية، حتى حدود الرابع من حزيران 1967، بما يشمل القدس الشرقية بوصفها عاصمة للدولة الفلسطينية كاملة السيادة، وحل قضية اللاجئين بموجب القرارات الدولية. بعد التجارب المريرة الفاشلة السابقة، كلّ اقتراح آخر لا يرتقي إلى هذه المبادئ لن يكون سوى لعب على الوقت، ومن جهة إسرائيل هو اقتناص للوقت، لعبة سياسييها المفضّلة.
فلسطينياً، من الواضح أن السبيل للوصول إلى أرضية كهذه، لا بدّ أن يمرّ عبر وضع برنامج وطني واضح المعالم. هذا يحتاج إلى مناعة وصلابة، لن تتوافرا بالطبع ما دامت الحالة السياسية الفلسطينية أسيرة الانشقاق الداخلي. لا مبرّر للانشقاقات العدائية تحت الاحتلال، مهما كان! وعليه، فإن قيادة فتح مطالبة بفتح الباب مجدداً للحوار ورأب الصدع الخطير. من غير المعقول فتح أبواب الحوار مع الخارج على اتساعها واتساعه، مقابل مواصلة إيصاد أبواب الحوار في الداخل. أما بالنسبة إلى حماس فقد آن الأوان كي تتصرّف بمسؤولية كما يليق بحركة سياسية أن تتصرّف. إنها مطالَبة بوضع برنامجها السياسي للمرحلة القادمة وتوضيحه، لا كمجموعة تصريحات متناثرة، بل كبرنامج مفصّل. لا يمكن الهرب من هذا الاستحقاق ولا الاكتفاء بالتصريح بما لا تريده الحركة. لقد انتقلت حماس إلى موقع إضافي كقوة تنافس على الحكم، ووصلت إليه فعلاً. في هذا الموقع، يُنتظر من صاحبه طرح سياسات واضحة أمام الشعب، لأنه بدون إرادة فلسطينية موحّدة ومسؤولة، ستتسرّب شتى المخططات الخطيرة، وأحدها «لقاء بوش».
حالياً، من غير الواضح كيف سينتهي هذا «اللقاء» الذي يسيل اللعاب الإسرائيلي عليه بجلاء. بعض الزعماء العرب بدأوا بالتململ، وإن ببطء شديد، لأن «المؤتمر يفتقر إلى إطار». أهذه بوادر يقظة؟ ليس مؤكداً... مع أن الحكمة السياسية، ولو بأضيق معانيها الغائيّة، تستدعي من أنظمة العرب الحذر في تعليق أنظار الشعوب على مشاجب التوقعات العالية الفارغة، قبل أن يتم رفسها لاحقاً، مرة أخرى، إلى مربعات جديدة من الإحباط. وهذا، من دون أن نقول شيئاً عن مصالح الشعوب، والكرامات الوطنية، والواجب القيادي الأخلاقي، وإلى آخر هذه المفاهيم التي باتت في حكم الأعجميّة بالنسبة إلى معظم الرسميين العرب!
* صحافي فلسطيني