ياسين تملالي *
هل «القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي» مجرد فزّاعة تسمح للنظام الجزائري بإرجاء إحلال الديموقراطية في البلاد، ولأميركا ببسط نفوذها في هذه المنطقة الخارجة نسبياً عن سيطرتها؟ نعم، يجيب بعض الجزائريين: ليست هذه المنظمة أكثرَ حقيقيةً من «الجماعات الإسلامية المسلحة» («الجيا» سيئة الذكر). فالاستخبارات بارعة في اختلاق الأعداء الوهميين لتمكين النظام من البقاء، أما البنتاغون فالكل يعلم أن له مصلحةً كبيرة في إقناع الساسة الأميركيين بتعاظم الخطر الإرهابي في شمال إفريقيا: موازنات جديدة ونفس جديد للمركب العسكري ــــــ الصناعي.
لا شك في أن كل هذا فيه شيء من الصواب، فقد أثبتت التجربة أن الاستخبارات العربية لا تتورّع عن إمضاء البيانات باسم التنظيمات المسلحة ولا عن اختراقها بهدف توجيه نشاطها في وجهة تستقطب الغضبَ الشعبي عليها، كما أن أميركا تبالغ حقاً في تصوير سطوة خصومها لتبرير سحقهم. كلُ هذا صحيح، إلا أنه ليس الحقيقةَ كلَّها، وشتان بين الدراسة الموضوعية لدور البوليس في السياسة و«التفسير البوليسي للتاريخ».
خلال العقد الماضي، حاول بعض المحلّلين إقناعَ الرأي العام بأن «الجيا» اسم لمسمى وهمي، تتخفى وراءه مصالح الأمن العسكري، وأن الجيش هو من اقترف عشرات المذابح ضد سكان الأرياف المعزولة لا الإسلاميين التكفيريين. وكما هي الحال في تشكيكهم اليوم في هوية «قاعدة المغرب الإسلامي»، كانوا يجعلون من بعض الحقيقة حقيقةً مطلقةً: اختراقُ قوات الأمن لهياكل الجماعات المسلحة كان برهانهم على أن هذه الجماعات دمى لا حول لها ولا قوة، تندثر بمجرد انتفاء الحاجة إليها. أما عدم تدخل السلطة لحماية المدنيين فكان الدليلَ القاطع على تورطها في ذبحهم.
واليوم بعدما انكشف أن «الجيا» لم تكن من صنع الاستخبارات، ها هم يحاولون إقناعنا بأن «قاعدة المغرب الإسلامي» سراب في سراب. وحجّتهم الوحيدة في ذلك أن وجودها يخدم مصلحة السلطة في الاستمرار في العمل بقانون حالة الطوارئ ويعطي أميركا ذريعةً لوضع قدمها في الشمال الإفريقي. إلا أن الواقع أكثر تعقُّداً من تخمينات الباحثين وهو، للأسف، لا يشبه إلا نادراً أفلام الجاسوسية. فكما أن التيار التكفيري، بشهادة أقطاب الحركة الإسلامية في الجزائر وخارجها، وُجد في «الجيا» واستأثر بقيادتها في فترة نشاطها الأخيرة، فإن «قاعدة المغرب الإسلامي» تنظيم حقيقي لا ينفي وجوده استعماله من قبل الاستخبارات لإبقاء جذوة «مكافحة الإرهاب» دائمة الاشتعال: يكفي لنقتنع بذلك أن ندرس تشكيل الجماعات الإسلامية الجزائرية في ضوء تاريخ الحركة الإسلامية العالمية.
ما هي «القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي»؟ هي سليلة «الجماعة السلفية للدعوة والقتال». وما هذه «الجماعة السلفية»؟ حاصل انشقاق وقع في 1998 في صفوف «الجيا»، برّره زعماؤه آنذاك برفضهم إباحة دم المسلمين من غير «سدنة الطاغوت». كثيرة هي شهادات قدامى نشطاء المنظمات المسلحة التي تثبت ذلك. ولم يكن هذا الانشقاق الوحيد داخل الحركة المسلحة الإسلامية في تلك الفترة الدامية، فرابطة الدعوة والجهاد ـــــ تنظيم سلم سلاحه في إطار «قانون الوئام المدني» (1999) ـــــ هي الأخرى شقت عصا الطاعة على «الجيا» للأسباب الفقهية عينها.
ويبدو إعلان «الجماعة السلفية» انتماءها إلى «القاعدة» في تشرين الثاني 2006 تحصيل حاصل. فهي منذ نشأتها، وبالنظر إلى رفضها تكفير المدنيين الجزائريين، تصنف معها في الخانة الجهادية نفسها. أما تجنيدها الشباب للقتال في العراق، فشرعت فيه سنتين على الأقل قبل انخراطها في هذه الشبكة العالمية. وإذا كان الانتساب إلى «القاعدة» لا يغيّر إلا القليل في طرق نشاطها، فإنه يمكنها من تحقيق مكسبين اثنين. أولهما فرض الحديث عن أنشطتها على الإعلام العربي والدولي كجزء من مخطط عسكري عالمي، وثانيهما الإفادة من عون منظمات شبيهة ما كانت لتنالَه لولا التحاقها بـ«القاعدة» التي استمالت مجموعات راديكالية كثيرة إلى مشروع «الجهاد ضد الصليبية الجديدة».
ثم ألا يحق أن نتساءل: أليس من اللافت للانتباه أن تنشق «الجماعة السلفية» عن «الجيا» في وقت استعر فيه الجدل وسط «الحركة الجهادية» عن طريقة التعامل مع المدنيين في البلدان المسلمة: هل يجب اعتبارهم مسلمين أم كفاراً يحلُّ دمهم كما يحلُّ دمُ «الطاغوت»؟ وهل هي، كتيار «القاعدة»، جعلت من الإقرار بإسلامهم الخطَ الأحمر الذي يميز إيديولوجيتها عن إيديولوجية «الجيا»؟
وهنا تحق الملاحظة: ألن يزيد انتساب «الجماعة السلفية» إلى «القاعدة» من تهميشها محلياً وينأى بها عن كل مشروع قُطري يمكنها من الانغراس في أوساط الشباب الجزائري الناقم؟ والجواب أنها، كـ«الجيا»، لم يكن لها يوماً ما من مطلب سياسي وطني غير «إقامة شرع الله». وهي من هذا المنطلق، مثلها مثل «الجيا»، عديمة الصلة بجبهة الإنقاذ الإسلامية التي آذن حظرها في 1992 بانتشار حريق الحرب الأهلية. كانت جبهة الإنقاذ حزباً تسلطياً إلا أن واجب الحقيقة يفرض تبرئتها من إنشاء كلا هذين التنظيمين. ولا أدلّ على ذلك من أن تنظيمها العسكري الخاص (جيش الإنقاذ الإسلامي) لم يطالب يوماً «بتطبيق الشريعة»: فقط بـ«قبول الحوار» و«إطلاق سراح المعتقلين».
كان إهمال «الجيا» لكل مطلب سياسي عدا «إقامة شرع الله» مجرد انعكاس لراديكاليتها. أما عدم اكتراث «قاعدة المغرب الإسلامي» لإشكاليات الجدل السياسي الجزائري فيفسره، علاوة على راديكاليتها، إيمانها بأن الصراع الرئيسي في «دار الإسلام» صراع مع القوى الغربية المتحالفة، وأنه بالنظر إلى ذلك، يجب أن يُخاض في كل مكان تحت لواء عالمي واحد. لذا نراها تجعل من تجنيد الشباب للقتال في العراق محوراً من محاور عملها لا يقل أهميةً عن تجنيدهم للالتحاق بمعاقلها.
وقد يسأل البعض: لماذا سمت «الجماعة السلفية» نفسها «قاعدة المغرب الإسلامي» وهي لا تعدو أن تكون منظمة قطرية جزائرية؟ يمكن تفسير اختيار هذه التسمية بعدة عوامل. أولها أن هذه الجماعة، بتصوير نفسها على أنها منظمة كبرى، تطبق تكتيكاً معروفاً من تكتيكات «القاعدة»: المبالغة في الحديث عن تعدادها وعدّتها لاجتذاب «الجهاديين» إليها. ثاني هذه العوامل أنها أحسن المنظمات «الجهادية» في المغرب العربي تنظيماً وتسليحاً، ما يؤهلها لأن تكون نواةَ منظمة إقليمية. وثالثها أن الانتساب إلى «القاعدة» يمكّنها من استمالة مجموعات أخرى انشقت مثلها عن «الجيا» (كـ«حماة الدعوة السلفية» التي ما زالت نشطة في الغرب الجزائري)، فمن مصلحة هذه المجموعات المعزولة الانخراط في تنظيم أكبر يعطي لنشاطها بعداً آخر غير النجاة بنفسها من قمع السلطات. أما رابع هذه العوامل فهو الرد رمزياً على «مبادرة مكافحة الإرهاب في ساحل الصحراء» التي أعلنها البنتاغون في 2005.
واضح أن هدف هذه المبادرة الأميركية ليس فقط «مكافحة الإرهاب» في دول الساحل، فمهما ازداد المد الإسلامي في هذه المنطقة، فلا يمكن أن يقارَن بما هو عليه في العراق أو أفغانستان. الهدف منها إذاً ـــــ بالإضافة إلى منع الحركات الإسلامية المغاربية من استعمال الصحراء كمعبر آمن للسلاح والمجنَّدين ـــــ هو محاصرة نيجيريا والجزائر وليبيا والسودان، وهي كلها بلدان غنية بثرواتها البترولية. ولا يتردد بعض الباحثين في القول بأنها أحد أسباب تقوية تيار «القاعدة» في المغرب العربي والساحل الإفريقي، لا نتيجته كما يزعم البنتاغون.
ولا يمنع الإقرار بوجود «قاعدة المغرب الإسلامي» من التساؤل عن طبيعة انتسابها إلى «القاعدة». فمن المرجح أن هذا الانتساب سياسي رمزي، بل ولا يمكنه أن يكون غير ذلك بالنظر إلى طبيعة «المنظمة الأم»: شبكة سديمية لا تشبه تلك المنظمة العنكبوتية التي يحاول البيت الأبيض إيهام العالم بتسييرها «الإرهابَ العالمي» انطلاقاً من جبال أفغانستان. ولا يعني الاعتراف بحقيقة هذه المنظمة عدم توخّي الحذر في تناول المعلومات بشأنها، وخصوصاً أن بعض هذه المعلومات تُستقى من مصادر رسمية «غير موثوق بها» وأن الهدف منها تضليل المواطنين لا إعلامهم، وأوضح بيان على ذلك تذبذب الأخبار عن تعداد «القاعدة المغاربية»: يُضخّم عندما تريد الحكومة تبرير ممارساتها التسلطية ويقلَّل من شأنه حالما يتعلق الأمر بتضخيم عدد المسلحين الذين «استجابوا لنداء المصالحة الوطنية».
لا جدال إذاً في أن السلطة الجزائرية تُفرط في استعمال فزّاعة «قاعدة المغرب الإسلامي» لفرض نفسها طرفاً فاعلاً في «الحرب على الإرهاب» على الصعيد الخارجي، ولتعطيل الانفتاح الديموقراطي على الصعيد الداخلي. إلا أن القول بأن هذا التنظيم مجرد وهم لا يختلف عن زعم بعض الديموقراطيين الجزائريين بأن الأجهزة الأمنية هي التي خلقت جبهة الإنقاذ الإسلامية لاحتواء النقمة الشعبية في إطار واضح المعالم ولو كان راديكالياً، وهي نظرية أثبتت الأحداث بطلانها. صحيح أن الاستخبارات برّرت بالأمس بجرائم «الجيا» إرهابها المضاد وما ميزه من آلاف الاختطافات والاغتيالات، وصحيح أنها اليوم تستغل «التهديدات الأمنية» للاحتفاظ بدور رئيسي في تسيير شؤون البلاد. إلا أنها ليست استخبارات مغفلة تخلق بنفسها مارداً يفلت من يدها. ولو ثبت ذلك لكان الجيش أول من انقلب عليها، فمعظم ضحايا عمليات «القاعدة المغاربية» من الضباط والعسكريين.
* صحافي جزائري