الأب متري جرداق *
خلال حرب تموز الماضي، كان لا بد من العمل على فضح مخططات أميركا وإسرائيل. فقلنا لمن يعنيهم الأمر من المضلّلين، إن إسرائيل تنفذ مخططاً أكبر من ردة الفعل على خطف جنديين. إنها تعمل لحساب أميركا على تحقيق الشرق الأوسط الجديد، وما التدمير الشامل الذي تقوم به، سوى مقدمة لتحقيق أهداف عديدة، أهمها:
1 ـــــ ضرب البنية التحتية اللبنانية، وتقطيع أوصال البلد، ما يخلق حالة من التمرد والاحتجاج على حزب الله، بسبب نتائج الأعمال العسكرية.
2 ـــــ لقد ركّزت اسرائيل على مناطق الجنوب، بأن تدمرها وتجبر أهلها على النزوح، ولاحقاً تمنعهم من العودة إذا ما استطاعت ان تحقق مكاسب على الأرض.
3 ـــــ وإذا ما تحقق لها ذلك، فإنها ستعمل على نشر فلسطينيّي المخيمات في قرى ومدن الجنوب، وتقوم بعملية ترحيل نهائية لجميع عرب الـ48 من شمال فلسطين والضفة الغربية الى جنوب لبنان، وبذلك تقضي على حلم العودة الفلسطيني، بعد ان تكون الولايات المتحدة قد وفّرت لها أجواءً سياسية تقضي على القرار رقم /194/ المتعلق بعودتهم.
التقيت خلال أيلول الماضي أحد مسيحيّي الناصرة، وهو من فلسطينيّي الشتات. وعلى هامش أعمالنا، كنا نتناقش في الوضعين اللبناني والفلسطيني إثر حرب تموز. قال لي بالحرف الواحد: «لو استطاعت اسرائيل أن تهزم حزب الله في هذه المعركة، لكانت رحّلت كل من بقي منا في فلسطين الى جنوب لبنان، وكان أهلي في أجواء هذا القرار». وأردف متسائلاً: «لماذا لم تضرب اسرائيل المخيمات الفلسطينية خلال هذه الحرب، وهي لا تترك سانحة إلا وتعتدي فيها عليهم؟ إنها تريد استخدامهم بعد عملية إلغاء حزب الله، وإسكانهم مكان الشيعة الذين هجروا من قرى الجنوب ومدنه، ما سيخلط الأوراق من جديد، ويتغير التوزيع الديموغرافي في جنوب لبنان، لتفوق أعداد السنّة أعداد الشيعة (ويومها اشترطت اسرائيل عدم السماح لهم بالعودة). وخلص الى القول: ألا حمى الله المقاومة، ونشكره على عدم سماحه بتهجيرنا مرة ثانية والى الأبد».
4 ـــــ عندما تنفذ اسرائيل هذه الخطوات، تحت المظلة الأميركية، فإنها تكون قد حققت تفوقاً عددياً «سنيّاً»، وبالتالي ستخضع التركيبة السياسية الجديدة في لبنان، لمعايير جديدة في التوازن الطائفي، وستؤدي الى نزع رئاسة الجمهورية من يد المسيحيين الموارنة وإعطائها للمسلمين السنّة، بسبب تعدداهم الأكبر في لبنان، وتكون اسرائيل قد حققت لأميركا الخطوة الأولى لتحقيق الشرق الأوسط الجديد عبر البوابة اللبنانية.
5 ــــ عندما تتحقق الخطوة الأولى، بضغط من أميركا ومجلس الأمن، يحين دور سوريا، حيث تقوم أميركا واسرائيل بافتعال مشاكل وأحداث طائفية تقوض السلم الداخلي، وتتغير التركيبة السياسية السورية، بإعادة السيطرة السياسية السنّية على زمام الأمور فيها، وتعمل على خلق مناطق طائفية تحت سلطتها، وبذلك تقضي على العنصر الأساسي الرافض للسير في ركاب المنظومة الأميركية ومصالحها، وتضعف العنصرين الشيعي والعلوي في لبنان وسوريا أمام المدّ السنّي المدعوم أميركياً، وتصبح الحلقة المحيطة بإسرائيل خاضعة للسيطرة الاسرائيلية ــــــ الأميركية، ويختفي كل وجه من أوجه المعارضة الداخلية والخارجية الرافضة للوجود الاسرائيلي في المنطقة.
6 ـــــ بعد ان تتحقق كل هذه الخطوات العسكرية، تصبح منطقة الهلال الخصيب والجزيرة العربية ووادي النيل في دائرة السيطرة الاميركية ـــــ الاسرائيلية، وعندها يمكن أميركا ان تقوض كل الكيانات المحيطة بإسرائيل، وتخلق معادلة جديدة بتصرف أميركا واسرائيل، عنصراها النفط والشعب، وتحقق الأخيرة شعارها: «حدودك يا إسرائيل، من الفرات الى النيل».
ان غزو أميركا للعراق، لا يتوقف على مكاسب اقتصادية فحسب، بل يتعداها الى خلق معادلات سياسية جديدة في المنطقة، وفرض واقع جديد على شعوبها. فمن قبل بها وسار بركب السياسة الجديدة، أصبح من المنعم عليهم، ومن رفض، فالموت أمامه أو الرحيل، وذلك لأن اسرائيل لن تقبل بأن يشاركها أحد، وبالتالي فإنها ستعمل على التخلص ممن يناهضها، مسيحياً كان أو مسلماً، وفلسطين وغزة شاهد على ذلك.
كانت أحلام اسرائيل هذه ستحصل فيما لو قيّض لها ان تنتصر في جنوب لبنان، وكانت ستقطف ثمارها مع أمها الحنون أميركا، لكن اسرائيل لم تتخلَّ عن هذا المشروع، وستعمل له كلما سنحت لها الظروف.
ان هذا التحليل مبني على أحداث حصلت، وخطط وضعت بين اميركا واسرائيل. ومن يراجع كتابات المحللين الاسرائيليين في صحفهم، يفهم بكل سهولة ردة الفعل الاسرائيلية ــــ الأميركية تجاه المقاومة اللبنانية والإسلامية. إن خطف الجنديين الاسرائيليين لم يكن سوى الوجه المباشر للحرب، مثلما كان السبب لشن فرنسا الحرب على الجزائر سنة 1830 واستعمرتها، وكما ادعت اسرائيل ان الفلسطينيين قد قتلوا سفيرها في لندن، فشنّت الحرب على لبنان.
يخطئ كل من يقلّل من أهمية الاستراتيجية الأميركية ـــــ الاسرائيلية في المنطقة، وواهم كل من يأمن الى سياستهما عندنا. ان أميركا تريد ان تقضي على الفلسطينيين وشيعة لبنان الرافضين لسياستها ومخططاتها في المنطقة. فالمصالح الاقتصادية، وبخاصة النفط، هي الأسباب غير المباشرة للسيطرة على بلاد المشرق العربي، وإجبار شعوبها من خلال التغيرات السياسية، على أن ترزح تحت نظام سياسي جديد في الشرق الأوسط، تكون بلاد «الهلال الخصيب» مسرحاً أساسياً له.
لقد شنت اسرائيل وأميركا الحرب علينا كمقدمة لخلق هذا الشرق الأوسط الجديد، من خلال البوابة اللبنانية تحديداً، لكنها فشلت. فهل سيبقى هذا المشروع العنصر الأساسي للسياستين الأميركية والاسرائيلية في هذا المشرق؟ وهل ستعي قيادات هذه المنطقة أن «موسى الحلاقة ستصل الى ذقن كل رئيس وملك عربي، وستكون على الناشف»؟
برأيي، إذا لم يخلق جيل جديد على أساس العزّة والكرامة، فإن الجميع سائر الى العبودية مهما طال الزمن، ومهما تأجّل تنفيذ هذا المشروع.
* دكتور في التاريخ