مارون سليمان أبو نادر
قرأت باهتمام بالغ كتاب «مأساة جزين» للدكتور جورج كرم الذي وقّعه يوم الأحد 2/9/2007. إنه بالفعل أكثر من كتاب بل هو وثيقة مهمة تؤرخ حقبة مأساوية مرت بها مدينة جزين وجوارها، وأكاد أقول معظم البلدات الجنوبية الواقعة ضمن ما كان يسمى آنذاك (الشريط الحدودي).
هناك مأساة يعجز عن وصفها اللسان لم يتطرق إليها الدكتور كرم في كتابه. إنها قضية خدمة العلم. أجل خدمة العلم. إذ كان لزاماً على المجند في جيشنا اللبناني أثناء تأديته لخدمة العلم ولمدة سنة كاملة أن يبقى خارج هذا الشريط وممنوع عليه العودة الى مسقط رأسه حتى نهاية خدمته. هذا التدبير المأساوي الجائر قد ألحق الأذى والضرر المادي والمعنوي والنفسي بالمجندين وأولياء أمرهم، المغلوب على أمرهم.
من كان يدخر شيئاً من المال استأجر به منزلاً في المدينة. ومن ليس لديه المال كان يتردد بخجل الى منازل الأقرباء من أجل الاغتسال والمبيت.
ومن لم يكن لديه المال والأقارب كان يلجأ الى الحافلات أو الشاحنات التي سمح له أصحابها بالمبيت فيها. إنها مأساة إنسانية ارتكبت بحق شعب متجذر في أرضه، وفيّ لها، سلخوه عنها سلخاً.
لا أستطيع وصف معاناة الأمهات وهن يتنقلن بين المنزل الزوجي في الشريط حيث بقية العائلة، والمدينة حيث الابن المجند، على رغم قساوة المعابر وعذاباتها، ناقلات الى أولادهن الألبسة الداخلية والأطعمة ومصاريف الجيب إذ إن راتب المجند كان دون مئة ألف ليرة.
لقد بلغت تكاليف كل شاب مجند أكثر من عشرة ملايين ل.ل. وأنا شخصياً ذقت هذه المرارة إذ أدى اثنان من أولادي شرف خدمة العلم.
كم من الدموع ذرفت قهراً وكم من الأموال صرفت هدراً.
وكم كان يحزّ في نفوسنا منظر هؤلاء الشبان ينتظرون قدوم أهلهم في الحدائق العامة وتحت ظلال الأشجار كما تنتظر الفراخ قدوم أمهاتها.
لقد تخلت عن هؤلاء المجندين كل الجمعيات الإنسانية والروحية والرسمية وتركتهم يواجهون مصيرهم بشرف وكأنهم «نازلون من اجرين الشوحة»، ومن دون مساعدة الدولة لهم أو النظر في أوضاعهم كلاجئين في أرضهم...
كم من مجند مات والده أو جده أو أحد الأعزاء عليه من دون أن يتمكّن من وداعه، وكم من المناسبات المفرحة والأعياد السعيدة مرت وهم في غربة عن الأهل والأرض ومنزل الوالدين من دون أي سبب ولا مبرر.
إنها بالفعل مأساة خلّفت في نفوسهم الأسى والنقمة والحرقة التي لن تمحوها الأيام.
شكراً للدكتور كرم كتابه الوثيقة. وعذراً على هذه المداخلة.