strong>محمد مصطفى علوش *
أثار ظهور زعيم تنظيم القاعدة «أسامة بن لادن» في شريط فيديو قبل أربعة أيام من الذكرى السادسة لأحداث الحادي عشر من سبتمبر زوبعة من التساؤلات لدى المراقبين والسياسيين على السواء، ضارباً عرض الحائط كل ما أثير حوله من إشاعات تفيد موته أو مرضه الشديد المقعِد عن الحركة أو الكلام. وقد جاء هذا الظهور بعد انقطاع دام حوالى ثلاث سنوات كان يظهر خلالها الرجل الثاني في التنظيم أيمن الظواهري، ما زاد التساؤل إلحاحاً حول مغزى هذا الظهور، ولا سيّما أنّ العادة الكلاسيكية التي كان يظهر فيها بن لادن لابساً بذلة عسكرية وإلى جانبه كلاشنكوف لم تظهر معه، بل خرج بصورة جديدة إلى العالم صابغاً لحيته بالسواد ومرتدياً زيّاً عربياً موحياً بالرصانة والحكمة.
أما على صعيد المضمون، فأهم ما تميز به خطابه أنه جاء بكامله موجهاً إلى الغرب، وإلى الشعب الأميركي تحديداً، في كلمة استمرت نصف ساعة تنقل فيها بين إعطاء درس في التاريخ ودرس في العظة، خالياً من أي مبادرة كالتي عرضها في شريطه السابق، من قبوله بوقف إطلاق النار على الأهداف الغربية إذا سحبت الدول الأجنبية قواتها من بلاد المسلمين، داعياً الأميركيّين إلى رفض الديموقراطية واعتناق الإسلام مخلّصاً لهم، وذلك دون أن يتطرق من قريب أو بعيد إلى سبب انقطاعه الطويل وإلى سبب عودته من جديد.
يبدو أن ظهور بن لادن الجديد أقام الدنيا ولم يقعدها داخل الإدارة الأميركية، مكوّناً مادة دسمة لكل سياسي أميركي حسب الرغبة، حيث زاد النخبة السياسية الأميركية انقساماً على انقسامها. فلم يعد الأمر يقتصر على اختلاف وجهات النظر بين الجمهوريين والديموقراطيين في كيفية التعامل مع ملف الإرهاب، بل تعدى ذلك الاختلاف إلى داخل البيت الأبيض نفسه. ففي الوقت الذي يصرّح فيه الرئيس الأميركي جورج بوش بأن ظهور بن لادن دليل على أن العالم ما زال في خطر، عقب ظهور الشريط، تخرج مستشارته لشؤون الأمن الداخلي برأي مخالف مفاده أن «زعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن ـــــ عاجز فعلياً ـــــ ولا يستطيع عمل شيء أكثر من أن يبعث رسائل مسجلة على شرائط فيديو». ويتفاقم الجدل في ظل توقعات مؤسسة «إنتل سنتر الأميركية» المعنية بمراقبة نشاط الجماعات الإسلامية المتشددة بأن لديها علامات أوّلية على أن رسالة ثانية لبن لادن ستنشر في الأسابيع القادمة، يرجح أن تكون موجهة إلى العالم الإسلامي لا إلى الغرب.
في تقديري، إن ظهور بن لادن لا يحمل تهديداً جدياً، وإن القاعدة اليوم هي في أضعف حالاتها، خلافاً لما يروّج له المحافظون الجدد الذين يتنفّسون الصعداء كلّما ظهر تصريح جديد للقاعدة، ليبرّروا سياساتهم في الداخل الأميركي وخارجه.
فمن يتابع التغيّرات التي طرأت على تنظيم القاعدة منذ أحداث 11 أيلول وحتى اليوم، يجد أنّ القاعدة أخفقت في معظم عملياتها، وكشفت جلّ خلاياها في أكثر من بلد. ويتبيّن ذلك من خلال عدّة أمور أهمها:
ـــــ تراجع نفوذ القاعدة في المثلّث السنّي العراقي بعد عدة أخطاء ارتكبتها بحق التنظيمات السنّية المقاومة، الأمر الذي أدى إلى تراجع الدعم السنّي لها، فضلاً عن النجاح الذي حقّقه الأميركيون في تسليح جماعات سنّية لمواجهة القاعدة. وهكذا ضعفت قوة ما يعرف بدولة العراق الإسلامية التي تسيطر عليها القاعدة. وما زيارة بوش الأخيرة إلى الأنبار إلا مؤشراً على ذلك.
ـــــ كشف أكثر من خلية في السعودية وإجهاض أكبر مخطّط تدميري تشهده السعودية قبل وقوعه، والذي كان يستهدف إحدى أكبر محطات النفط السعودية على يد «قاعدة الجهاد في بلاد الحرمين».
ـــــ إخفاق «القاعدة في أرض الكنانة» في تحقيق أي من أهدافها حتى اللحظة في مصر، رغم انضمام جناح من «الجماعة الإسلامية» إلى التنظيم على يد محمد خليل الحكايمة. فقد كُشف أخيراً عن خلية تتبع للتنظيم وفُكِّكت.
ـــــ فشل آخر عملية أرادت القاعدة تنفيذها في بريطانيا، وكشف مرتكبيها.
ـــــ الكشف مؤخراً عن شبكات في كل من الدانمارك وألمانيا، كانت تخطط لعمليات تخريبية.
ـــــ تراجع غير متوقّع لنفوذ «الجماعة السلفية للدعوة والقتال» التي تحولت إلى «تنظيم القاعدة في بلاد المغرب العربي»، رغم نجاحها في تنفيذ بعض العمليات التي لاقت استنكاراً كبيراً من الشارعين الجزائري والمغربي، والذي كان آخره التصويت لحزب العدالة والتنمية المعتدل في الدار البيضاء التي شهدت انفجارات سابقاً، وذلك رداً على العنف ونبذاً له. وهي وإن نجحت في تنفيذ بعض التفجيرات، فقد خسرت الكثير من التعاطف الشعبي معها.
ـــــ في لبنان، كُشف أكثر من مرة عن شبكات متهمة بقربها من تنظيم القاعدة، كان آخرها تفكيك شبكة الأستاذ الجامعي (عصام. ح) الذي كان يخطط لضرب جسور وأنفاق في نيويورك بحسب ما تسرب من معلومات أمنية.
ـــــ أخيراً، القضاء شبه الكامل على عناصر تنظيم «فتح الإسلام» في لبنان، الذي إذا صحت المعلومات المتداولة بانتمائه إلى القاعدة، تكون «القاعدة» قد تلقّت أكبر وأوسع ضربة قاصمة في تاريخها، لم تستطع أعتى دولة في العالم فعلها، حيث فكّك الجيش اللبناني تنظيماً يزيد عديد عناصره على خمسمئة فرد.
المحصلة إذاً هي سلسلة من الإخفاقات تمرّ بها القاعدة، في وقت تتّجه فيه إلى تبنّي سلسلة من الخلايا والمجموعات والتنظيمات في الشرق الأوسط والمغرب العربي، مكوّنةً حالاً من الانفلاش والتوسّع الأفقي غير المتماسك والسهل رصده، على حساب التماسك العمودي، حتى تحوّلت إلى ظاهرة ضمن منظومة الفوضى الخلاّقة ومسهّلة لعجلة سيرها نحو التطبيق .
هذا لا يعني أن الإدارة الأميركية لم تخسر الحرب على الإرهاب، بل العكس هو الصحيح. والأصح أيضاً ان الإدارة الأميركية بدل أن تجعل العالم أكثر أمناً بعد 11أيلول 2001، جعلت العالم أكثر خطورة. وهذا ليس عائداً إلى نجاح القاعدة في إلحاق الهزيمة بالإدارة الأميركية في أفغانستان والعراق، بقدر ما هو عائد للاستعلائية والعنجهية التي تميّزت بها هذه الإدارة التي استنفرت كل قوى الممانعة المناهضة للغطرسة الأميركية من إسلاميين ويساريين وقوميين في جميع الدول المستهدفة. وبالتالي، فإنّ إرجاع الفضل في إجهاض مخطّطات الإدارة الأميركية في العراق وأفغانستان إلى تنظيم القاعدة وحصره فيه دون غيره من الحركات المقاومة أمر منافٍ للحقيقة.
كذلك فإن الانتشار الواسع للحركات المتشددة في العالم اليوم، ليس عائداً إلى صواب القاعدة في تبنيها العنف خياراً استراتيجياً في تطبيق أجندتها، بل يعود إلى ما ألحقته هذه الإدارة بالشعب الأميركي والعالم. هذا ما يؤكده مايكل شوير المدير السابق لوحدة «بن لادن» في «CIA» حين قال إن «سياسات أميركا في المنطقة ودعمها المطلق لإسرائيل والديكتاتوريات العربية، يحفّز الإرهاب، وخاصة تنظيم القاعدة، ضدها»، متابعاً: «إن غزونا للعراق واحتلاله قصم ظهر أميركا، لأن هذا برر الدفاع عن النفس أو الجهاد طبقاً للمفهوم الإسلامي، كما أن سياستنا إزاء إسرائيل تعدّ عبئاً على السياسة الخارجية الأميركية».
* باحث متخصّص في الشؤون الإسلامية