strong>دينا حشمت *
من ضمن الأخبار المأسوية التي تتصدّر صفحات الجرائد المصرية المستقلة، ما بين تجويع وترهيب وتعذيب، تلك المتعلقة بوفاة فتيات إثر عمليات ختان. وآخر الحوادث المتعلقة بالختان ـــــ عند كتابة هذه السطور ـــــ نشرت تحت عنوان «زوج يُجبر زوجته على إجراء عملية «ختان» بعد سنة ونصف زواجاً وإنجاب طفل»: اصطحب رجل شاب زوجته «أشجان» إلى «الداية» في حي شبرا الخيمة في القاهرة وأجبرها على إجراء عملية سبّبت لها نزفاً حاداً، دخلت على إثره المستشفى ثمّ قدّمت بلاغاً ضده، اتهمته فيه بأنه «تسبّب في إحداث تشوّهات خلقية لها وأجبرها على إجراء عملية ختان».
وليست هذه الحادثة هي الأولى من نوعها، فقد قرأنا طوال أشهر الصيف عن أخبار موت عدد من الفتيات إثر نزف حاد، أو جرعة تخدير زائدة بسبب عملية ختان. والأرجح أنها ليست وتيرة هذه الأحداث التي ازدادت في الشهور الأخيرة، بل الكشف الإعلامي عنها بالذات، بعد موت «الطفلة بدور»، 11 عاماً، في شهر حزيران/ يونيو في محافظة المنيا، بسبب جرعة تخدير زائدة أثناء عملية ختان. فهذا الحدث هو الذي شكّل نقطة البداية لحملة «مكافحة ختان الإناث» التي أطلقتها السيدة سوزان مبارك شخصياً. فأسرعت والتقت وزير الصحة السيد حاتم الجبلي، وهو الاجتماع الذي أسفر عن القرار الوزاري الصادر في 28/6/2007 الذي «يحظر إجراء جراحة ختان الإناث في جميع المراكز الطبية العامة والخاصة في مصر». حتى الآن كان القانون المصري يسمح باستثناءات يحدّدها «رئيس القسم» عندما يرى «ضرورة إجراء هذه العملية لأسباب صحية».
ولم تكتف السيدة سوزان بالشق القانوني للموضوع، بل استغلّت انعقاد «المؤتمر الإقليمي لمناهضة العنف ضد الأطفال» لإقامة دقيقة صمت على روح «الشهيدة بدور»، وللتعبئة الإعلامية ضد ختان الإناث، كما قامت بتعبئة جميع مؤسسات المرأة التي ترأسها ـــــ وهي كثيرة ـــــ وعلى رأسها المجلس القومي للطفولة والأمومة. فشاهدنا أثناء الصيف محافل ومؤتمرات، وملصقات وإعلانات تلفزيونية، بل حتى تظاهرات تحت شعار «لا للختان». فنظمت في محافظة أسيوط في الصعيد، مسيرة كان يتقدّمها اللواء نبيل العزبي محافظ أسيوط، هو ذاته الذي كان يشغل منصب المدير العام لأمن القاهرة عندما تحرّش «بلطجية» الأمن بالمتظاهرات والصحافيات المتواجدات في تظاهرة احتجاجية على تعديل الدستور يوم 25 أيار/ مايو 2005.
وبعيداً عن هذه المفارقة المثيرة للسخرية أو للاشمئزاز حول الطريقة التي يتلاعب بها هؤلاء بحقوق المرأة لتلميع صورتهم الإعلامية، فالسؤال الأهم هو طبيعة الحملة نفسها، التي أطلقت عليها السيدة قرينة الرئيس، «بداية النهاية»؛ إذ إن هذه الحملة لم تنجح حتى الآن في أن تعطي لنا ولو «بداية» أمل في «نهاية» هذه الظاهرة؛ بل بالعكس، شهدت شهور الصيف عدة حوادث وفاة لفتيات أثناء إجراء عمليات ختان، كما سبق وأشرنا، دون أن نسمع عن أي إجراءات قانونية ضد الأطباء الذين تسبّبوا في وفاة الفتيات، على أساس أنهم مخالفون للقرار الجديد بممارستهم عملية ختان الإناث، وكأن القرار لم يُصدر ليطبّق، وإنما لضرورات الحملة الإعلامية الخاصة بالسيدة سوزان.
أما عن هذه الحملة الدعائية الأوسع، فكيف تشكّل «بداية النهاية» لظاهرة موجودة في المجتمع المصري منذ آلاف السنوات، تمارسها كل فئاته، مسلمين ومسيحيين، من جميع الطبقات الاجتماعية والانتماءات المهنية والثقافية ـــــ حسب آخر تقرير منظمة الصحة العالمية، فإن 97% من نساء مصر، ما بين 15 و49 عاماً، مختّنات؛ كيف تشكّل هذه الحملة «بداية النهاية» لظاهرة بهذا الحجم وبهذا العمق، وهي حملة تندرج جميع فعالياتها تحت شعار عام فضفاض «لا للختان»؛ شعار لا يعني شيئاً لأنه يتجنّب الخوض في شرح الأضرار التي قد تتسبّب فيها هذه العملية في حياة البنت الجنسية، ولا تُبذل حتى أبسط الجهود لتفسير الأخطار الصحية الجسدية والنفسية الناجمة عنها، والتي قد تؤدي إلى وفاة البنت.
كيف تنجح هذه الحملة دون أن تزحزح قواعد الهيمنة الذكورية على المجتمع؟ كيف تنجح دون أن تواجه كبار الأطباء، رؤساء الأقسام، الذين يشرحون في كليات الطب ميزات ختان الإناث «التجميلية/ العلمية» من وجهة نظرهم؟ كيف تنجح دون أن تواجه المعتقدات التي ترى أن ختان الإناث أفضل ضمان لعفة البنت قبل الزواج ولكبح رغباتها الجنسية؟ أو بمعنى آخر، لترويضها جنسياً ـــــ وهو ما لم تنجح فيه بالطبع عملية الختان التي، على قسوتها وبشاعتها، لم تجعل من النساء المختّنات نساء «مسكينات» وقعن ضحية لشعب متخلّف، فتخلّين عن حقّّّهنّ في التحقق في حياتهن الجنسية، كما تصوّرهنّ بعض وسائل الإعلام ـــــ الغربية والعربية أيضاً.
والاستنتاج التلقائي لمن ينظر إلى هذه القضية من هذا المنطلق هو ضرورة ظهور من يأتي لتحرير المرأة من قبضة هذا «الشعب المتخلف»، ولتنويرها بما هو الأفضل والأحسن؛ ولكن الواقع أكثر تعقيداً، إذ إن أغلب النساء لا يرين في الختان أي مشكلة، بل يعتبرنه ضرورة اجتماعية إن لم تتحقق قد لا تجد بناتهن من يتزوجهن؛ بل هنّ اللاتي يصررن أحياناً إصراراً شديداً على إجرائه لبناتهنّ، في حالة عدم مبالاة الأب. وهناك العديد من الجمعيات النسائية مدركة لهذه التناقضات وتقوم منذ عقود بعمل دؤوب في قرى الصعيد بالذات، للتوعية حول مخاطر عملية ختان الإناث، ونجحت بالفعل في تحقيق بعض النتائج الإيجابية في الأماكن التي تتواجد فيها؛ ولكننا، عندما ننظر إلى الحملة القائمة الآن، بإمكاناتها الضخمة وضجيجها الإعلامي المزعج، بتصريحات كبار المسؤولين، وبفتاوى شيخ الأزهر ومفتي الجمهورية ـــــ إذ فجأة ـــــ نشعر وكأن تلك الجهود كلها لم تحدث من أساسها.
ثم إننا نتساءل لماذا لم تطلق المؤسسات الراعية للطفولة والأمومة التي ترأسها السيدة سوزان مبارك، حملات شبيهة لتلك التي أطلقتها من أجل «الشهيدة بدور»، عندما مات «الطفل محمد» تحت التعذيب في قسم شرطة المنصورة وهو لم يتجاوز الثانية عشرة من عمره، لأنه اتهم بأنه سرق «باكو شاي»؟ وقد اكتفى المجلس القومي للطفولة والأمومة بإصدار بيان أقل ما يقال عنه إنه سخيف، إذ إنه يشيد «ببيان السيد وزير الداخلية من أنه يقف ضد انتهاك حقوق الإنسان».
يبدو أنه من الأسهل بالنسبة إلى هؤلاء المثقفات الحكوميات التنديد بممارسات «شعبهم المتخلّف»، بدلاً من مواجهة ممارسات رجال وضباط الشرطة؛ فهنّ لا يقدرن حتى على انتقاد الأطباء الذين يروّجون لختان الإناث ويستفيدون منه. لم تفت هذه الحقيقة النساء المصريات، اللاتي لم يسمعن صوت سوزان مبارك عندما ماتت الفلاحة نفيسة المراكبي تحت التعذيب في السجن سنة 2005، ولا عندما تم هتك عرض ناشطات «كفاية» وصحافيات في الشارع سنة 2005، ولا عندما اعتصمت عاملات شركة «المنصورة أسبانيا» أخيراً.
فالأكيد أن «بداية النهاية» لختان الإناث لن تكون على يد مؤسسات من قبيل «المجلس القومي للطفولة والأمومة». لعل تصاعد الاحتجاجات من جميع الأنواع في كل أنحاء البلاد يشجع النساء على إعادة النظر في كل ما هو مقبول وموروث؛ فإذا احتجّ الناس ضد ما هو مقبول منذ عقود طويلة، فلماذا لا تحتجّ النساء على ما هو موروث منذ آلاف السنين ـــــ على غرار ما فعلته «أشجان»، التي تجرّأت وقدّمت بلاغاً ضد
زوجها.
* صحافية مصرية