علاء اللامي *
مع اقتراب العام الجاري من نهايته، يشتد الصراع السياسي والأيديولوجي في العراق حول واحدة من أخطر القضايا المختلف عليها، قضية محافظة كركوك النفطية العريقة التي تحتضن جميع المكونات المجتمعية العراقية، حتى وصفها البعض بالعراق المصغّر.
فالأحزاب السياسية الكردية وميليشياتها المسلحة تحاول تجسيد حلم قديم راودها بإلحاق المحافظة ومناطق من محافظات أخرى بإقليمها المستقل ذاتياً منذ نهاية حرب تدمير العراق سنة 1990، والاستفادة من تحالفها الحالي والعميق مع الاحتلال الأميركي، واهتبال الفرصة المتاحة للاستقواء بهذا الحليف وانتزاع المحافظة الغنية، ولكن بشكل منسق ومخطط له جيداً يراعي الأصول الدستورية وتحديداً المادة 140.
المكون المجتمعي الكركوكي الثاني الذي يحاول الفوز بالمحافظة، أو في الحد الأدنى بضمان حقوقه كمكوّن عريق وأغلبي في مرحلة ما، هم التركمان الذين يرفضون إلحاق المحافظة بالإقليم الكردي ويطالبون بأن تكون إقليماً قائماً بذاته وتابعاً للمركز في بغداد.
العرب والكلدان والآشوريون هم المكونات الأقلّوية الأخرى في المدينة. فقد تحول وجود الكلدان والآشوريون إلى الرمزية بفعل عوامل الهجرة القسرية والطوعية ومستتبعات أعمال العنف الطائفي في عهد الاحتلال. أما بالنسبة للعرب، فمع أن نسبتهم السكانية القديمة كانت مقاربة لنسبة الكلدان والآشوريين، ولكنّ قوّتهم السياسية اضمحلّت كثيراً بفعل إفرازات مرحلة ما بعد سقوط نظام البعث وواقع الاحتلال الأجنبي، وتشرذمت قوتهم التمثيلية بين الكيانات السياسية والعشائرية والطائفية الجديدة حيث يراد جعلهم كبش فداء لكل المظالم القومية التي ارتكبها ذلك النظام بحق المكونات الأخرى.
بالأرقام، وبالعودة إلى الإحصائيات الرسمية التي أجريت قبل عام واحد تقريباً من ثورة 14 تموز 1958، تلك الإحصائيات التي يعترف بها جميع الفرقاء السياسيين، نجد أن مدينة كركوك:
- كانت تضم إضافة إلى التركمان الذين شكلوا أكثر قليلاً من نصف السكان أقلية كردية تصل نسبتها إلى الثلث.
- يشكل العرب والآشوريون ما تبقّى من سكان المدينة. ومعنى ذلك أن الوجود العربي في المدينة ليس مفتعلاً أو حديثاً جاء مع مجيء النظام الشمولي، فهناك حيّ لعرب كركوك يعود إلى العهد العثماني اسمه «عربلر» في منطقة المصلى في صوب القلعة. وهناك أحياء عربية فيها أقيمت في الخمسينات من القرن الماضي هي أحياء الحديدية والعروبة والممدودة. فيما كان للكرد حيّان صغيران قديمان هما: حي «شوان» في صوب القورية، وحيّ «زيوا» أو «أمام قاسم»، وهناك أحياء قديمة وأكثر عدداً من هذه للتركمان. رغم ذلك، فقد تم إهمال وشطب المكون العربي من كركوك وإقليم كردستان كله بموجب المادة 53 من قانون إدارة الدولة المعروف شعبياً باسم «قانون بريمر» أي الحاكم الأميركي على العراق، والخاصة بتكريس الاستقلال الذاتي للإقليم الكردي والتي تقول: «د - يضمن هذا القانون الحقوق الإدارية والثقافية والسياسية للتركمان والكلدو ـ آشوريين والمواطنين الآخرين كافة». أي أن الكرد أو ممثليهم هم الحاكمون بوصفهم الأغلبية، وهناك اعتراف بحقوق الأقليات كالتركمان والكلدان والآشوريون، أما العرب فلا وجود لهم وربما اعتبروا مجرد أفراد «ومواطنين آخرين»...
- أما المجموع العام للسكان في كركوك فكان، بحسب إحصاء 1957، يبلغ 120402 نسمة، بلغ عديد الكلدان والآشوريين منهم 12691 نسمة أي ما يقارب 10% (المصدر: الإحصاء الرسمي للسكان لسنة 1957، معطيات اقتبسها حنّا بطاطو في كتابه «الشيوعيّون والبعثيّون والضباط الأحرار» ص 224).
صحيح أن هجرة العرب قد ازدادت إلى كركوك في العهد الجمهوري، وطوال نصف قرن تقريباً، وصحيح أن النظام الشمولي أرغم أعداداً كبيرة من سكانها الكرد والتركمان على الهجرة منها في السنوات الأخيرة، غير أن من الصحيح أيضاً أن يكون الهدف والحل في إعادة المواطنين المهجرين من كرد وتركمان وآشوريين، وعدم تحميل مسؤولية ما حدث للسكان العرب والقيام بحملات تهجير انتقامية ضدهم. فالحل كما نعتقد يكمن في الحكم الذاتي الواسع الصلاحيات لمجتمع كركوك كمدينة متعددة القوميات...
إن واقع التعقيد والتوتر والقصوية هو الذي يحكم قضية كركوك اليوم من الألف إلى الياء، وليس من الحكمة في حال كهذه اللجوء إلى فرض حل يرتضيه الأقوياء أو المستقوون بالأقوياء «المحتلين». إن المادة 140 من الدستور، والتي كانت تحمل الرقم 58 في قانون بريمر، ليست إلا بياناً ميليشيوياً يفرض المطالب الكردية بصورة سافرة، ولكن هل فكّر المحتفلون به بمصيره ومصير إفرازاته إذا نجحوا في فرضه، بعد أن يرحل المحتلون وتنقلب معادلة وموازين القوى؟ لنلقِ نظرة على أهم فقرة في هذه المادة للتأكد من خطورتها على مستقبل المدينة وعلى حقوق جميع المكونات بما فيها المكون الكردي:
«تقوم الحكومة العراقية الانتقالية ولا سيما الهيئة العليا لحل نزاعات الملكية العقارية وغيرها من الجهات ذات العلاقة، وعلى وجه السرعة، باتخاذ تدابير من أجل رفع الظلم الذي سببته ممارسات النظام السابق والمتمثلة بتغيير الوضع السكاني لمناطق معينة بضمنها كركوك، من خلال ترحيل ونفي الأفراد من أماكن سكناهم، ومن خلال الهجرة القسرية من داخل المنطقة وخارجها، وتوطين الأفراد الغرباء عن المنطقة، وحرمان السكان من العمل، ومن خلال تصحيح القومية...»
واضح أن هذه المادة تتيح اعتبار عرب كركوك من «الأفراد الغرباء»، وتطالب بتهجيرهم من كركوك وتوطينهم في مناطق أخرى من العراق، لأنها لا تحصر مطلبها بقلة سكانية هاجرت إلى كركوك في عهد النظام الشمولي وهرب أغلبها مع سقوط النظام، كما حدث في حي «الدور السكنية» قرب محطة تربية الأغنام في «داقوق» وأماكن أخرى، حيث هُدِّدَت تلك العوائل العربية وهُجّرت عنوة وأُسكنت عوائل كردية من عشيرة الكاكائية في منازلها. ثم كيف يُعقل أن يعتبر العراقي العربي غريباً وأجنبياً في كركوك، في حين يعتبر العراقي الكردي مواطناً عادياً في بغداد، التي وصفها جلال طالباني مازحاً وجاداً في آن واحد، بأنها أكبر مدينة كردية، لأنها تضم أكثر من مليون كردي؟
* كاتب عراقي