strong>عبد الإله بلقزيز *
لم يكن ما حصل من انقسام عربي على الخلاف بين «فتح» و«حماس»، وما انتهى إليه هذا الخلاف من اقتتال وقطيعة دموية، أمراً صحيّاً أو يقدّم فائدة أو بعض فائدة لطرفَيِ الخلاف ولقضية الوحدة الوطنية الفلسطينية. وليس وجهُ الضرر فيه أنه كان انقساماً، لأن ذلك مما لا يستغرب من محيط عربي متفاعل أشد ما يكون التفاعل مع ما يجري من أحداث في فلسطين. وإنما الضرر فيه كونه أتى في صورة انحيازٍ، إمّا لهذا الفريق أو ذاك من دقّ الإسفين، ولم ينفع في رتق الخرق أو تهدئة الصراع على ما كان يفترض من أصدقاء الحركتين وحلفائهما في البلاد العربية من أحزاب وحركات وشخصيات سياسية أو ثقافية أو مؤسسات إعلامية. انساق الأكثر في هؤلاء وراء الخلاف، موزّعاً بالتساوي بين طرفيه بدل السعي في تطويقه واستيعابه. وفجأة، ما عادت غزة (ولا الضفة) مكاناً لذلك الخلاف، وإنما اتّسعت جغرافيته إلى كل مكان عربي يدور فيه حديث عن الوضع الداخلي الفلسطيني!
مَن ينتقد «فتح» ويسكت عن «حماس» كمَن ينتقد «حماس» ويسكت عن «فتح». كلاهما يقول نصف الحقيقة ويحجب نصفها الآخر. وهذه طريقة معطوبة لا تساعد على فهم صحيح للإعضال الفلسطيني ولا على المساهمة في تصويب أوضاع العلاقات الداخلية الفلسطينية. وهي ـــــ فوق ذلك ـــــ محكومة بنظرة أخلاقية منحازة لهذا الفصيل أو ذاك لا للقضية ولا لمصلحة الحركة الوطنية برمّتها. يسهل كثيراً على المنغمس في هذه المقاربة غير الموضوعية علميّاً، وغير النقدية منهجيّاً، وغير النزيهة أخلاقياً، أن يلجأ إلى المعادلات «السياسية» المبسّطة القائمة على تقسيم الساحة الفلسطينية إلى ملائكة وشياطين، إلى أخيار وأشرار، إلى مستسلمين ومقاومين، إلى ديموقراطيين وانقلابيين، وإنتاج مواقف سياسية من ظواهرها ومن واقعاتها على هذا المقتضى. وهي معادلات لا تركب إلا رؤوس نوعين من البشر: المبتدئين الذين يجهلون ما وراء العموميات لأنهم مبتدئون، وذوي المصالح الضيقة (سواء السياسية أو العقائدية) الذين تمنعهم مصالحهم الصغيرة من رؤية المصلحة الكبرى (الوطن والقضية).
من النافل القول إن أمر هذه المعادلات والثنائيات مما ينبغي أن يترك للاستخدام الدعائي الفتحاوي ـــــ الحمساوي لأنه «يناسب» نمطاً من السجال السخيف الذي دَرَجَ عليه الفريقان وأدمناه طويلاً، ولأنه جزء من عملية التجييش والتحشيد الداخلية التي يجري بها استنفار الجمهور الحركي واستنهاض عصبيته الحزبية من قبل الفريقين معاً. وليس معنى ذلك أن هذه الثنائيات والتمثّلات المتبادلة مشروعة في الداخل الفلسطيني أو مبررة على أي نحو من الأنحاء، وإنما القصد أن نقول إنها مفهومة في سياق نمط الثقافة السياسية الفصائلية السائدة وخاصة لدى حركتي «فتح» و«حماس»، وفي ضوء ضغوط معركة الوجود والبقاء في السلطة، حيث كلّ الأسلحة تصبح مبررة بما فيها ـــــ وبكل أسف ـــــ سلاح الكذب والتشهير والتحريض والتخوين والإلغاء! لكنه ليس من المفهوم كيف يستعير «الحلفاء» العرب للفصيلين المفردات والأسلحة عينها في معركة موالاة هذا الفريق ومناوءة ذاك إلا إذا كان الهدف شيطانياً: النفخ في نار الفتنة! وهو هدفٌ قد يذهب إليه أصحابه بعيون مفتوحة من دون أن يساورهم شك في أنهم على صواب في ما يفعلون، أي أنهم قد يذهبون إليه بنيات حسنة (والطريق إلى جهنّم مفروشة بالنيات الحسنة)!
لقائل أن يقول إن الاستقطاب العربي الحاد حول الموقف من النزاع الداخلي الفلسطيني هو صورة مكبّرة لذلك الاستقطاب الفلسطيني الذي أشعل فتيل المواجهة المسلحة بين «حماس» و«فتح»، وإن ثقافة المضاربة السياسية والدعائية المستبدّة بالحركتين الفلسطينيتين هي عينها الثقافة السياسية السائدة في كل ساحة عربية؛ فما الذي يبعث إذاً على الشعور بالاستغراب من اندفاع ذلك الجدل العربي إلى الانتظام وراء النزاع الفلسطيني والصيررَة جزءاً من نسيجه؟ والملاحظة وجيهة لو كان الصراع بين «فتح» و«حماس» صراعاً على السلطة في وطن محرر ودولة مستقلة، وحينها كان يمكن أن يقال إن أي حزب عربي (أو مجموعة سياسية أو ثقافية) يرى في أحد الفصيلين امتداداً أو نظيراً له بالمعنى السياسي، أو بالمعنى الأيديولوجي، أو بالمعنيين معاً، يبرر له مناصرته (حتى على مقتضى القاعدة العصبوية: ظالماً أو مظلوماً). أما وأن فلسطين رازحة تحت الاحتلال الصهيوني وأهلها في مرحلة التحرر الوطني، فإن أي وقوف إلى جانب فريق ضد آخر لا معنى له ولا نتيجة سوى بث الفرقة والشقاق في ساحة تحتاج إلى الوحدة بأي ثمن، وتعاني من الهشاشة في التوازن ومن نقص حادّ في التضامن الوطني الداخلي.
على أن ثمة جمهوراً عربياً، من السياسيين والمثقفين والناشطين في مؤسسات المجتمع المدني، أقل انحيازاً لهذا الفريق أو ذاك وأكثر انفتاحاً عليهما معاً على نحو متوازن. وهو ما زال يتمسك بالوحدة الوطنية وبإطار منظمة التحرير الجامع، ويعارض «انشقاق أوسلو» ولا يجد مبرراً مقبولاً لصراع «فتح» و«حماس» على مؤسسات ذلك الاتفاق. ويهمّنا أن يتماسك موقف هذا الجمهور أكثر في مواجهة الاستقطاب الداخلي، فلا يجنح إلى إبداء انحيازه إلى أي فريق. على هذا الجمهور أن يخاطب الفصيلين المتنازعين مخاطبة نقدية صريحة لا محاباة فيها ولا مداهنة، لأن هذه المخاطبة هي عين العقل والصواب أولاً، ولأنها الطريقة الوحيدة للضغط المعنوي على الفصيلين المقتتلين وإشعار كل منهما بأن سياسته الخاطئة لا تلقى رضىً من الجمهور العربي. إن لم يستطع هذا النقد، فليعتصم بالحياد وهو أقل المطلوب.
يؤسفنا كثيراً أن قسماً من أقلام هذا الجمهور (القومي واليساري) يخطئ وظيفته النقدية ـــــ والتوازنية ـــــ في كثير من الأحيان فيميل إلى تخطئة «فتح» والتماس الأعذار لـ«حماس» ـــــ وهذا هو الغالب على موقفه ـــــ أو على تخطئة «حماس» وتفهّم أسباب سياسة «فتح»: وهذا ما حصل في النادر. إنه بهذا يزيغ عن دوره النقدي والتوحيدي المفترض، ويُفقد نفسه ـــــ من حيث لم يحتسب ـــــ امتياز الموقع القادر على توفير حاضنة شعبية عربية للحركة الوطنية الفلسطينية. الأسوأ من ذلك أنه يقدم مساهمة غير مباشرة في تمديد حالة الطوارئ داخل العمل الوطني الفلسطيني!
كانت أعظم خدمة يسديها مثقف عربي للثورة الفلسطينية ـــــ زمن عنفوانها ـــــ تنبيهها إلى أخطائها التي تقع فيها، بل نقد تلك الأخطاء من دون تردد. ما زالت الخدمة الجليلة تلك هي نفسها اليوم ما على المثقفين أن ينهضوا به، وخاصة بعد أن تكاثرت الأخطاء وتشابكت واستفحل أمرها وتوهّمت الثورة بأنها أصبحت «دولة» (وهذه أمّ الأخطاء والخطايا!). فما لهؤلاء المثقفين العرب يصمتون، وعن هذه المهمة الجليلة ينصرفون؟!
* كاتب عربي