محمد الحاج *
تسود البلد هذه الأيام حمّى الاستحقاق الرّئاسيّ، باسطةً ثقلها على الشّعب والوطن، إلى حدٍّ تفوّقت معه على المطلب الأكبر للمعارضة، المتمثِّل بتأليف حكومة وحدة وطنيّة، تُجسِّد مدخلاً ميثاقيّاً طبيعيّاً للخروج بالبلاد من أزمة التّعطيل.
ولشدّة استحواذ هذين الاستحقاقَيْن على حاضر اللّبنانيّين المثقل بالهموم، يكاد يظنّ الواحد منّا أنّه يعيش في أحد البلاد الاسكندنافيّة الهادئة، حيث لا يعوز المواطن شيء من ضرورات الحياة الرّاقية. فلم يعد لدى اللبنانيّ أيّ همّ إلا الاصطفاف الحادّ، تارةً حول محور الحكومة، وأخرى حول رئاسة الجمهوريّة.
اللبنانيون ولعبة التجاذب السياسي
ومع أنّ مبادرة الرّئيس نبيه برّي، القاضية بتقديم مصلحة الاستحقاق الرّئاسيّ على الحكومي، قد وضعت الجميع أمام مسؤوليّاتهم الوطنية، يبقى المواطن الغائب الأكبر ومستقبله الضحية الأولى في هذه اللّعبة السياسية التّجاذبيّة.
وما الأهميّة القصوى المعطاة لانتخابات رئاسة الجمهوريّة إلا نتيجة لفشل فريق السّلطة في تنفيذ «مشاريعه» الدّوليّة، وتحدّي إرادة الشّعب، وحَرْف مسار التّاريخ وحدود الجغرافيا، وتغيير معادلتي العدوّ والصّديق والإرهاب والمقاومة، حسب ما يتلاءم مع المشروع الأميركيّ المرسوم للمنطقة، والهادف إلى توفير الأمن القوميّ والتّفوّق العنصريّ للكيان الصهيونيّ.
ويشبه هذا الاهتمام البالغ «المريب» بانتخاب رئيس للبلاد، على مستوى الأساليب والأهداف، تلك المعركة الانتخابية الضّروس التي جرت في المتن، والتي لم تكن مجرّد تنافس اعتياديّ على مقعد نيابيّ، بل كانت صراعاً مبدئيّاً بين مشروعين متباينين، بقطبَيْن مسيحيَّيْن، أحدهما تسالميّ تعايشيّ، والآخر تصادميّ تنابذيّ.
مجدّداً، وبعد عدوان تمّوز، يقف اللبنانيون أمام مشروعَيْن استقطابيَّيْن لا حلَّ وسطَ بينهما، لا بل أمام لبنانَيْنِ، الأول لبنان فريق السلطة: المستقبل والسّيادة والحريّة والدّيموقراطيّة، لا لبنان المرتهن لسوريا وإيران. والثاني لبنان فريق المعارضة: السّيّد الحرّ المستقلّ القويّ، لا لبنان المرتهن لأميركا وتوابعها.
وأمّا إثارة الحديث النّرجسيّ عن أنّنا كلبنانيّين نحتاج إلى الثقة ببعضنا البعض، والاعتماد على أنفسنا فقط دون الخارج، فلا نتيجة عقلائيّة مرجوّة من ورائه. إذ لا يعدو كونه حلماً في بلد غابت عنه شمس الواقعيّة. فالعالم كلٌ مترابطٌ، لا مجال فيه لفكرة الانفصال البتّيّ عن الواقع الإقليميّ والدّوليّ.
الشأن المحلي والتأثيرات الدولية
أمّا الموقف الواقعيّ والعقلائيّ فهو أن يُدخل لبنان في حساباته المحلّيّة مجريات الأحداث العالميّة. فالمسائل اللبنانية لم تعد، إن لم نقل إنّها ـــــ ومنذ نشأة الكيان اللبنانيّ ـــــ لم تكن أصلاً بيد اللّبنانيين وحدهم، وخاصة بعد تغيّر الكثير من المعادلات السّياسيّة، وانهيار المنظومة الاشتراكيّة، وتسلّم الولايات المتّحدة الأميركيّة، كقوّة أحاديّة، إدارة السّياسة العالميّة.
ولا يختصّ الأمر بلبنان وحده، فما من دولة في العالم هذه الأيّام تستطيع حلّ مسائلها الوطنيّة ومشاكلها القوميّة بمعزل عن التّأثيرات السّياسيّة الدّوليّة.
وعليه، فإنّ انتخاب رئيس جديد للجمهوريّة لا يمكن أن يتمّ دون التّوافق المحليّ بين أصحاب المشروعين الاستقطابيين، المترافق مع التّوافق الإقليميّ والدّوليّ للارتباط الوثيق بينهما. وههنا يجد المراقب أنه لا مصلحة لأيّ فريق خارجيّ مؤئِّر في الشّأن الدّاخليّ اللبنانيّ، في شرخ وحدة البلد والشّعب إلى بلدين وشعبين أو شعوب. وما من فريق خارجي يريد لبنان مقسّماً، إلى فتات دولة، لأنّه يريد لبنان، كلّ لبنان، إلى جانبه.
الرئيس الجديد بين الداخل والخارج
ولمعرفة كيف ستكون عليه حال رئيس البلاد القادم، لا بدّ من الوقوف على ما تريده منه قوى الدّاخل والخارج.
فأميركا تريد رئيساً لبنانياً قوياً، منخرطاً في مشروعها الشّرق أوسطيّ، ولا سيّما محاربة الإرهاب الدّوليّ (الإسلاميّ) بما يشمل قوى التّحرّر الوطنيّ والمقاومة الشّعبيّة (كحزب اللّه)، والدّول الحاضنة لها (كسوريا وإيران)، ومراعياً لمصالحها الدّوليّة، ومهيَّئاً لتوقيع معاهدة سلام مع إسرائيل.
ولذلك تعترض إدارة البيت الأبيض، «دون أن تتدخل في الشّأن اللّبنانيّ» كما تزعم، على مجيء رئيس مقرّب من حزب الله أو مدعوم منه.
ولو أرادت أميركا رئيساً للجمهورية، يجمع الشعب ويدافع عن حرمة هذا البلد وكرامته ضد من تُسوِّل له نفسه الاعتداء عليه ـــــ حتى لو كانت حليفتها إسرائيل ـــــ لَوَقَفَ كلّ لبناني مع المشروع الأميركي، إذ إنّ عداء بعض اللبنانيين لأميركا ليس إلا من جهة كونها دولة ظالمة.
ويمثّل هذا الموقف الأميركيّ الموقفَ الأوروبيّ بشكل عام، والإسرائيليّ بشكل خاصّ.
وإيران تريد رئيساً لبنانيّاً وطنيّاً قويّاً، يحترم خيارات الشّعب اللّبنانيّ ويحفظ إنجازاته، ولا سيّما مقاومته الباسلة، ويوائم بين الجيش والمقاومة، ويجعلهما، في عين اختلافهما وتنوعهما، جسماً دفاعيّاً واحداً. كما تريده صديقاً لها ولسوريا، ومعادياً لإسرائيل، لا العكس.
وسوريا تريد رئيساً لبنانيّاً عربيّاً قويّاً، يراعي جانب الأمن القومي السوري، في صراعها مع العدوّ، ولا يكون شوكة في خاصرتها الغربيّة، ولا يعاديها، بل يكون معادياً لإسرائيل، عدوّة العرب والمسلمين.
والمعارضة تريده رئيساً لكلّ اللّبنانيّين، بكلّ شرائحهم، يصون الدّستور، ويحفظ وحدة الجيش، وإنجازات المقاومة، ويميِّز بين «الجار» الغريب المعتدي، و«الجار» القريب، الشّقيق والصّديق.
وفريق السّلطة يريد رئيساً قادراً على تنفيذ مشروع ثورة الأرز، بدءاً من العداء لسوريا وإيران، وكلّ من يقف إلى جانب المقاومة، مروراً بإرجاء العداء لإسرائيل، وصولاً إلى قيام لبنان «الحلم الأميركيّ».
من هو الرئيس اللبنانيّ المقبل؟
أمّا مرشّح المعارضة الأساسيّ فهو العماد ميشال عون. وهو مرفوض كلّيّاً من قِبل فريق السّلطة.
وأمّا مرشّحو 14 آذار، فقسم مجاهر بالعداء للمقاومة، وبالتّالي لإيران وسوريا، وساكت عن معاداة إسرائيل، وصديق لأميركا، راعية حرب تمّوز 2006. وهو مرفوض تماماً من المعارضة. وقسم آخر لا يعادي المقاومة، لكنّه حتماً ليس معها، وفي الوقت نفسه منخرط في المشروع الأميركيّ. وهو مرفوض من المعارضة، إلا في حال استقلاله عن مشروع فريق السّلطة المشبوه، وحفظه حقوق المعارضة المشروعة.
وأما المستقلّون فحظوظهم ضعيفة، لكونهم لا يحظون بتمثيل شعبيّ معتبر.
وأما اقتراح انتخاب قائد الجيش كحلّ مرحليّ، بحيث يمسك بزمام السّلطة، ويسعى لإقامة حكومة انتقالية، تدير دفّة البلاد إلى حين إجراء انتخابات نيابيّة، يرشح عنها انتخاب رئيس للبلاد، يعمل بدوره من خلال الاستشارات النّيابيّة المتعارفة على تأليف حكومة وحدة وطنيّة، فلم يلقَ الاهتمام أو التّشجيع، بل الاعتراض والرّفض، لأسباب عدّة ولا سيّما المذهبيّة منها (لكون رئاسة الحكومة مخصوصة بالسّنّة)، فضلاً عن إشكاليّة حساسيّة المجيء بـِ«عسكريّ» إلى السّلطة مرّة ثالثة أو رابعة.
ما الحلّ؟
إنّ كلّ كلام مطروح في هذه المرحلة عن انتخاب الرّئيس ـــــ الحلّ، أو الوفاقيّ أو التّوافقيّ، لا يتجاوز الإطار التّنظيريّ للرّؤية المستقبلية للبلاد. وبالتّالي فهو يفتقد إلى الجانب العمليّ والأفق التّطبيقيّ، ويتجاوز الحدود الواقعيّة للمرحلة الرّاهنة.
فمن أجل الخروج العاجل من أتون الأزمة الرّاهنة المستحكِمة بين المعارضة والموالاة، والجارّة معها التّنابذ الدّوليّ حول لبنان، أو العكس، والقابضة على أنفاس المواطنين، ودرءاً للبلاد من الوقوع في خطيئة أزمة فراغ دستوريّ، وتجنيباً للوطن الواحد من قيام حكومتين أو انتخاب رئيسين، لا بدّ من الدّخول في مشروع تسوية اضطراريّة مرّة، لطالما لجأ إليها الفرقاء المتنازعون لدى وصولهم إلى حائط مسدود.
وقد اعتاد اللّبنانيّون، منذ قيام الجمهوريّة الأولى، على اللّجوء إلى مثل هذه الحلول «المسكّنة» لأزماتهم «المزمنة». ومع أنّه قد مرّت على البلاد في ما مضى بعض الحروب الأهليّة، والاهتزازات الأمنيّة، لأنّ الظّروف كانت تسمح بذلك بل تستدعيه، إلا أنها حالياً غير متوافرة، محلّياً ودوليّاً. فكلّ ما يشاع بين اللبنانيّين، من احتمال وقوع فتن وحروب أهليّة، لا يعدو كونه من باب وسائل التّخويف وأساليب الضّغط، لتغيير المعادلات السّياسيّة وإمرار مشاريع قوى الأمر الواقع.
فهو إذاً مشروع اللحظة الأخيرة، الّذي سيجد الجميع أنفسهم معه مجبرين على التّنازل عن تطرّفاتهم و«أحلامهم»، والتّراضي على «عدم التّراضي».
وبذلك يبقى لبنان بلد «العيش المشترك» على الطّريقة اللّبنانيّة التّراثيّة. فيذهب اللّبنانيّ خلال العمليّة السّياسيّة إلى أقصى حدود المواجهة والمخاصمة مع الآخر، من دون مراعاة أو حفظ لخطّ «الرّجعة»، إلى أن يصل الأمر إلى ما لا تُحمد عقباه، وتتهدّد الأخطار الوطن وساسته دونما استثناء، فيسارع الجميع إلى الحلّ ـــــ التّاريخيّ المعهود، وهو تسوية حارّة، فيها مختلف أنواع النّكهات الحادّة، وفق المطابخ العالميّة المعروفة، يزدردها الجميع بجهد وصعوبة، في عمليّة تجميد أزمة... وتسكين فتنة... وتأجيل حلّ.
* المشرف العام في معهد الحكمة الإلهية المتعالية