strong>ورد كاسوحة *
يبدو أن المفاعيل والديناميات السياسية والأمنية والعسكرية التي أطلقتها حرب تموز الأخيرة لمّا تنتهِ فصولاً بعد، دليل ما أقدمت عليه إسرائيل أخيراً من اختراق للأجواء السورية عند الحدود الشمالية والشمالية الشرقية التي تربط سوريا بتركيا والعراق.
واللافت في الأمر أن هذه العملية ترافقت على غير العادة مع إحجام إسرائيلي مطلق عن التعقيب على ما جرى، في مقابل نزوع سوري ملحوظ إلى الإعلان عن العملية، وتسليط الضوء على أدق تفاصيلها في مختلف وسائل الإعلام السوري، سواء منها تلك الرسمية الناطقة بصوت النظام، أو تلك «الخاصة» و«المستقلة».
ووجه الغرابة هنا يكمن في ناحية محددة ودقيقة، تتمثل في افتراق حالة المواكبة السياسية والإعلامية الإسرائيلية والسورية للاختراق الجوي الأخير عن حالات سابقة، تميزت بوفرة التغطية الإعلامية والسياسية من الجانب الإسرائيلي الرسمي وغير الرسمي، وقلتها أو ندرتها ـــــ إذا كان هناك من تغطية أصلاً ـــــ من الجانب السوري. وتحضر إلى الذاكرة في هذا المجال وقائع بعينها مثل: التحليق الإسرائيلي فوق القصر الرئاسي في اللاذقية، الاعتداء الإسرائيلي على منطقة «عين الصاحب» الواقعة على مقربة من العاصمة دمشق... إلخ.
يمكن رد هذه المفارقة البيّنة إلى الواقع الجديد الذي أفضت إليه موازين القوى في المنطقة بعد حرب تموز من العام الفائت. فإسرائيل خرجت من تلك الحرب مثخنة بالجراح، وبهزيمة كان من شأنها إسقاط الأسطورة التقليدية عن هيبة الردع الإسرائيلية، وبالتالي لم يعد ذا شأن كبير ذاك الزعم المتعلق باستحالة إيقاع خسائر ولو موضعية ومحدودة بالجبهة الإسرائيلية، الداخلية منها والخارجية.
لا يعود مستغرباً والحال كذلك ما أدلى به نائب الرئيس السوري أخيراً من تصريحات، تفيد بأن سوريا تدرس كل الاحتمالات الممكنة للرد على إسرائيل. وهذه تصريحات لم يكن من الممكن إطلاقها قبل سنتين من الآن، أي قبل وقوع حرب تموز، وذلك بفعل الحصار الدولي والإقليمي الذي ضرب حول النظام السوري عقب صدور القرار 1559، وتالياً اتهام هذا النظام بالضلوع في عملية اغتيال رفيق الحريري، مع ما ترتب على هذا الاتهام من تداعيات ومضاعفات على الدور السوري في لبنان وفي الشرق الأوسط عموماً.
وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على «صلابةٍ» ما يستشعرها النظام السوري في نفسه حالياً وفي قدرته على الرد والردع في آن، واستطراداً في القدرة على التصريح بهذا الخصوص.
ما يغفل عنه الخطاب الرسمي السوري هنا أن خروج النظام من حرب تموز الماضية «منتصراً» ـــــ والانتصار هنا هو انتصار المقاومة اللبنانية والشعب اللبناني فقط ولا فضل أو منّة لأحد عليهما في ذلك ـــــ ومحرزاً نقاط قوة على إسرائيل «الضعيفة» و«المشرذمة» لا يعني في أي حال أنه قد هزم إسرائيل، أو أفقدها نقاط القوة العديدة التي تمتلكها، كما لا يعني أيضا إعفاءه ـــــ أي النظام السوري ـــــ من واجب العمل على ترميم قدرة الردع السورية. وهذا يعني عدم الهاء الرأي العام العربي بتصريحات مبتذلة ـــــ رغم أهميتها بالنسبة إلى الرأي العام السوري، وهذه مفارقة سوف أتطرق إليها لاحقاً ـــــ لا تسمن ولا تغني عن جوع، والاستعاضة عنها بتعزيز الجبهة الداخلية السورية، بدءاً بترميم القدرة العسكرية للجيش السوري، ومساعدته على النهوض من حالة الإنهاك التي يعانيها منذ سقوط الاتحاد السوفياتي السابق، وانتهاءً بالانفتاح على الداخل السوري في المعارضة والموالاة معاً ومصارحته بالخطر الإسرائيلي المحدق، الذي من شأنه إذا ما وقعت الحرب إصابة السوريين جميعاً في مقتل، وأعني هنا عامل الاستقرار الأمني الذي تنعم به سوريا منذ عقود، وتتميز به عن باقي دول المنطقة الغارقة في حمى الصراعات والحروب الطائفية والمذهبية والعرقية.
وإذا كان هناك من «إيجابيةٍ» ما تسجل للموقف الرسمي السوري من الاعتداء الأخير، فهي ولا شك مسارعته بخلاف المرات السابقة إلى الرد وتحميل الإسرائيليين المسؤولية الأولى والأخيرة عما سيؤول إليه الأمر لاحقاً، فضلاً عن وضع «المجتمع الدولي» برمته أمام مسؤولياته.
وقد كان هذا الأمر كفيلاً بـ«طمأنة» السوريين بعض الشيء إلى أن نظامهم لن يتركهم هذه المرة كما هي العادة دائماً نهباً لسياسات الغموض الأمني والتعتيم الإعلامي الكفيلة بتحويل أي مواطن سوري أسيراً للتسريبات الإعلامية والسياسية الإسرائيلية، إذ كان من شأن التصريحات التي أدلى بها بعض مسؤولي النظام أخيراً الإيحاء للسوريين بأنهم ليسوا وحدهم في هذا، وإنما هناك من «يحميهم» و«يقيهم» خطر التهديد الإسرائيلي المستمر والمتفاقم. وهذا حق من جملة الحقوق الأساسية التي يجدر بالنظام السوري توفيرها وتأمينها لمواطنيه، حتى يغدو نظاماً جديراً
بـ«المشروعية»، وبالتالي يرفع عن نفسه شبهة القمع والإقصاء والواحدية التي التصقت به طيلة العقود السابقة.
والحال أن مقاربة الاعتداء الأخير لن تكتمل أو تكتسب مشروعية تذكر ما لم يعط الشق الإسرائيلي منها الحيز الذي يستحق، وخصوصاً أن الجانب الإسرائيلي هو الذي بادر بالهجوم، واضطر السوريون إلى أخذ ردود أفعال سريعة لم يعتادوا أو يعوّدوا مواطنيهم على أخذها سابقاً، نظراً إلى دقة الظرف وخطورته في آن.
وواقع الأمر يفيد بأن ما أقدمت عليه إسرائيل أخيراً كان بمثابة محاولة لاستعادة قوة الردع التي خسرتها، أو خسرت جزءاً كبيراً منها في حربها مع «حزب الله». وليس عديم الدلالة هنا ما صرح به مسؤول رفيع المستوى في البنتاغون قبل أيام، حيث أشار إلى أن هذه العملية هي كناية عن رسالة بعثت بها إسرائيل إلى سوريا، ومفادها: «الكفّ عن تزويد «حزب الله» بالأسلحة وتعزيز نفوذه في لبنان». وهو ما عادت وأكدته محطة CNN، في تقرير لها يشير بوضوح إلى «أن هذه الغارة الجوية إنما استهدفت شحنة أسلحة كانت متوجهة من إيران إلى لبنان عبر سوريا».
وسواء صحّت هذه المزاعم أو لم تصحّ، فإنها تدلل بوضوح على توجه إسرائيلي معلن بالتنسيق مع الحليف الأميركي إلى الحدّ قدر الإمكان من الخسائر التي تكبدتها الجبهة الإسرائيلية في تموز من العام الفائت، وهذا أمر لن يكتب له النجاح ما لم تقدم إسرائيل على خطوة استثنائية، من شأنها قلب موازين القوى التي أفضت إليها حرب تموز، وهذا يعني الإقدام على عمليات عسكرية موضعية ومحددة، ليست كبيرة إلى الحد الذي تتسبب به بحرب إقليمية في الشرق الأوسط، وإنما صغيرة ومركّزة بحيث تتكفل بإيلام «الأعداء» في سوريا و«حزب الله»، وبالتالي إيصال رسائل متفجرة إليهم تفيد بأن حرب تموز ليست نهاية المطاف. وتشهد على هذه الجدّة في المقاربة الإسرائيلية لحالة سوريا ـــــ حزب الله أمور عديدة من بينها سياسة التعتيم التي فرضتها السلطات الإسرائيلية على تعاطي الإعلام والصحافة في إسرائيل مع العملية الأخيرة! وما يزيد الأمر سوءاً هو تعاطي السلطات الإسرائيلية نفسها مع الأمر وكأن شيئا لم يكن، وكأن اعتداءً من قبل ذراعها العسكري على دولة ذات سيادة وانتهاكه لأراضيها لم يقع أصلاً! وهذا أمر يحتمل الكثير من التحليلات والأقاويل والنظريات، التي يجدر بالطرفين المعتدى عليه والمستهدف معاً، أي سوريا و«حزب الله» أخذها في الاعتبار، وعدم التقليل من شأنها، إذ فيها الكثير مما تخبئه اسرائيل من نيات عدوانية، ليس أقلها الانقلاب على نتائج حرب تموز، وفرض معادلات جديدة على المنطقة، تمهيداً ربما لضربة ما يعدّها الحليف الأميركي لإيران!
* كاتب سوري