د. جميل محمد محيدلي *
تستطيع في لبنان كتل نيابية متوسطة أو كبيرة الحجم، أو فئات أكثرية التمثيل الطائفي غير الموجودة في تركيبة السلطة، أن تعرقل مسيرة ومشاريع الحكم القائم.
وهذا ما شهدناه عند خروج الرئيس رفيق الحريري من السلطة عام 1998، وما نشهده حالياً من إمكانات تعطيل لدى المعارضة.
والسبب في ذلك أن الدولة في لبنان ليست أكثر من مجرد كيان معنوي يقوم على تآلف الجماعات المكوّنة للنسيج المجتمعي، على قاعدة الصيغة التوافقية.
ولذلك، لا تستطيع أية أكثرية حاكمة، حتى لو نالت رئاسة الجمهورية والوزراء ومجلس النواب، أن تسير بعجلة البلاد في مواجهة كتلة مقبولة الحجم أو ذات أبعاد طائفية أو
مذهبية.
إذاً، الشيخ سعد الحريري، وبغضّ النظر عن الامتنان الذي يكنّه لوليد جنبلاط لدوره بعد اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، لا يستطيع الاستمرار في سياسة التحدي والمواجهة الحالية التي انعكست سلباً على المشروع الاقتصادي الذي جهد والده الشهيد لبنائه. وخصوصاً إذا ما جرى انتخاب رئيس بالنصف زائداً واحداً من طرف الموالاة، فإن الكارثة الاقتصادية حتمية، مع ما يرافقها من تهديد لمصير لبنان بأوخم العواقب.
وإنه إذا جرى التوافق على رئيس للجمهورية من خارج الأقطاب المتنازعة، فإن المعارضة لن تعطي ضمانات مستقبلية. وأعني بذلك انتخابات 2009 النيابية التي ستقلب التوازنات الحالية لمصلحة المعارضة.
ويتجلى ذلك في أن محاولات تقليص شعبية العماد ميشال عون قد فشلت، وما زال يحظى بثقة أكثر من نصف أصوات المسيحيين، وهو في طور استرداد ما خسر من أصوات. ولذلك، فإنه سيكسب عام 2009 كامل مقاعد بعبدا عاليه في ظل قانون الانتخاب الحالي (برأيي لن يعمد تيار المستقبل إلى تغييرالقانون الذي يضمن له مقاعد أكثر من أي قانون آخر في بيروت والشمال)
إذاً، ستحمل انتخابات 2009 أكثرية للمعارضة الحالية، حينئذ سيدعو رئيس الجمهورية العتيد إلى استشارات نيابية مُلزمة، تؤول إلى تكليف رئيس حكومة وحكومة من تيار عون وحلفائه، تؤدي إلى خروج المستقبل من السلطة.
فما مصلحة سعد الحريري في رئيس توافقي (حكم بين أطراف النزاع، ويستمر النزاع) أو من 14 آذار أو حتى من تيار المستقبل، علماً بأن دور رئيس الجمهورية ما بعد اتفاق الطائف انحصر في مفاهيم رمزية وغير تنفيذية، كحامٍ للدستور وحكم بين الأطراف، وأصبحت السلطة في يد الحكومة التي إذا لم يسارع الشيخ سعد الحريري إلى تدارك هذه الحقيقة القادمة، فإنه سيخسر الوزارة.
إذاً، المعادلة هي: إما انتخاب عون رئيساً للجمهورية الآن أو تيار المستقبل خارج الحكم عام 2009.
إن سفر سعد الحريري وابتعاده عن أمراء الحرب الذين سعوا دائماً إلى تعميق الخلافات والتباينات ودفعها إلى مستوى التناقضات وتفجيرها، جعله بمنأى عن هذه التحريضات (وخصوصاً بعد إقرار المحكمة الدولية) وأقرب إلى الشروط الموضوعية لرسم توازن سياسي محتمل، عبر عدم مقاربة الاستحقاق بحد ذاته، بل كجزء من التسوية والتفاهم على المستقبل. ومن شأن ذلك إنقاذ حكومته عام 2009، وتلبية شروط المصالحة الوطنية والمصالح
الاقتصادية.
إذاً، باب المفاجأة لم يوصد تماماً، وإن خدمتنا الأقدار يكون أوان الحل قد أزف.
لكن تأمين المستلزمات المطلوبة لإنجاز هذا الحل تصطدم برفض الولايات المتحدة، التي لا يمكن أن تقبل بهكذا صفقة، من دون ضمانات بتحديد مصير مستقبل سلاح حزب الله. وإذا ما أُدخل وليد جنبلاط رغماً عنه في هكذا صفقة بدفع من تيار المستقبل، فما هو موقف سمير جعجع الذي على الأرجح لن يحظى حتى بمقعد نيابي واحد عام 2009 (مثل الخروف الذي يُعلف ويسمّن ليضحّى به في عيد التسوية).
ويبقى أن نقول إن ما قام به الرئيس بري من حماية لمجلس النواب، وعدم زجّه في المواجهات مباشرة، قد حفظ دوره لإيجاد التسوية، وهو عمل رجل دولة فهم أكثر من الجميع متى تُفتح أبواب المجلس لتظهير الحل الجامع، لا لتكريس الخلاف.
في عتمة الصراعات، وفي حمأة هذا الوضع، لا بدَّ لهذه التسوية أن تسود وتُثمر اتفاقاً أو نكون قد وصلنا حيث بلغ السيل الزبى.
* كاتب لبناني