محمّد سيّد رصاص *
تكاثرت الطروحات العلمانية في الآونة الأخيرة في العالم العربي. ويلاحظ صدورها الآن، بعد عقود ‏من الصمت عنها مارسه اليساريون والقوميون العرب، قبل الليبراليين الجدد، فيما كانت ليبرالية ‏النصف الأول من القرن العشرين محابية ومتحالفة أو غير متصادمة مع الإسلام والإسلاميين، مثلما ‏رأينا في تجربتي حزب الوفد المصري أو حزب الشعب السوري، وخاصة بعدما وُصمت العلمانية ‏في البلدان الاسلامية بالعداء للدين بسبب التجربة الأتاتوركية، فيما جاء الطرح العلماني العربي آنذاك ‏من أناس أتوا من التيار القومي العربي مثل ساطع الحصري وقسطنطين زريق.‏
يلاحظ الآن أن الطرح العلماني العربي الجديد متصادم مع الدين وقريب من الطبعة الأتاتوركية ‏للعلمانية، ويأتي من ليبراليين جدد، هم في حالة تماه مع المشروع الأميركي المطروح للمنطقة مع ‏احتلال العراق، الشيء الذي لا يمكن عزله عن حالة التصادم القائمة بين واشنطن والحركة الاسلامية ‏العالمية، بعد انفضاض التحالف الذي كان قائماً بينهما ضد السوفيات في زمن الحرب الباردة.‏
فمن الواضح هنا أن ما يحكم النظرة الليبرالية العربية المعاصرة إلى العلمانية ليس العوامل ‏الفكرية، بل العوامل السياسية المتعلقة بالإسلاميين المواجهين بغالبيتهم الكاسحة للمشروع الأميركي. ‏فإذا أخذنا الجوانب الفكرية، فإن ما يحكم العلمانية الأميركية منذ استقلال 1776 ليس نظرة علمانية ‏قريبة من الأتاتوركية تريد فصل الدين عن السياسة والدولة (‏secularism‏)، مثلما كان الأمر في ‏التجربة الفرنسية منذ عام 1905، بل نظرة علمانية أنكلو ـــــ ساكسونية (‏laicism‏) آتية من التراث ‏البروتستانتي، أثَّرت فيما بعد في نشوء التيار الديموقراطي المسيحي عند الكاثوليك والبروتستانت. ‏وهي فصلت المؤسّسة الكنسية الكهنوتية عن السياسة، إلا أنّها لم تضع عائقاً أمام نشوء تيارات ‏سياسية من متديّنين مدنيّين (‏laic‏) استلهموا ايديولوجيتهم السياسية من الدين ليضعوا برامجهم ‏وحركاتهم السياسية في مجرى المعاصرة والقوانين المدنية القائمة، وهو ما رأيناه منذ تجربة الحركة ‏البيوريتانية التي حكمت انكلترا عبر كرومويل في خمسينيات القرن السابع عشر، ثم قادت ثورة ‏‏1688 الدستورية، وصولاً إلى انجيلا ميركل وحزبها الديموقراطي المسيحي في ألمانيا.‏
لا يمكن عزو هذه المفارقة إلى نقص الثقافة عند الليبراليين العرب الجدد (وإن كانت هذه هي حال ‏بعض مثقفيهم) وهم يتكلمون على العلمانية كأنها «فصل الدين عن الدولة والسياسة» ليضعوا بعد هذه ‏العبارة نقطة على السطر، في وثوقية فكرية تذكّرنا بوثوقية السلفي الإسلامي بذاته عندما يطلق ‏أحكامه. فمن الجليّ أن ذلك نابع من هدفية سياسية، إذ يرى الليبرالي العربي المعاصر في «العلمانية» ‏وسيلة لنزع الإسلامي من الساحة السياسية ولإقصائه عنها (أكثر منها تعبيراً عن انشغالات فكرية ‏وثقافية حقيقية) في عملية ايديولوجية واضح فيها كم أن «الطلاء المعرفي» قليل السماكة ليقبع تحته ‏الهدف السياسي.‏
لكن اللافت في هذا الصدد، أن معظم الليبراليين العرب الجدد، المحوّلين أنفسهم نحو القبلة ‏الأميركية، قد أتوا من أوساط يسارية ماركسية، وكانوا يرون آنذاك في الماركسية، على الأقل فكرياً ‏إذا عزلنا الضرورات والتكتيكات السياسية، النقيض العدائي للدين. ويبدو أنهم ما زالوا يحملون هذا ‏النفَس في طورهم الليبرالي الجديد. إلا أن الملاحظ هنا ـــــ إذا عزلنا الحالتين اللبنانية والعراقية ـــــ أن ‏غالبية هؤلاء هم من أبناء أقليات دينية وطائفية وقومية، حيث الاسلام هو الدين السائد، أو هو ‏‏«يتماهى» في تلك البقاع مع السُنّة، أو هو مرتبط بالعروبة عضوياً كما في الجزائر إلى ‏درجة أن البربري القومي هناك يجد نفسه من خلال نزعته العلمانية المرتبطة بميوله القومية ـــــ ‏المطلية بالفرانكفونية ـــــ في ضفة أخرى مضادة للتعريب والإسلاميين، وهي حالة لم تكن موجودة في ‏زمن بومدين، قبل بداية المد الاسلامي السياسي في نهاية الثمانينيات، لما كان العداء للتعريب يرتبط ‏بالتصادم مع جناح مهيمن في السلطة الجزائرية.‏
يقود ذلك كله، الليبرالية العربية الجديدة إلى نزعة فيها الكثير من الرهاب الفكري ـــــ السياسي الذي ‏يختلط فيه العداء للاسلاميين بالعداء للإسلام، وهي تصل إلى حدود من العدائية (التي يتحدد فيها ‏الاتجاه السياسي عبر الآخر والسلب) تشبه الكثير مما كان موجوداً في مكارثية الخمسينيات ضد ‏الشيوعية. وهذا الرهاب يقود هؤلاء إلى تفضيل الديكتاتوريات، المتحالفة مع الأميركي مثلما في ‏الجزائر وتونس ومصر، على فتح نوافذ العملية الديموقراطية، خوفاً من أن يفوز الإسلاميون بالسلطة ‏عبر العملية الديموقراطية الانتخابية، مفضّلين الإقصاء والتهميش لقوى أساسية في الخريطة السياسية ‏العربية، وهو ما قاد إلى حرب أهلية دموية في الجزائر وكاد أن يقود لذلك في مصر التسعينيات، ‏وهو ما لم يستطعه عسكر تركيا الأتاتوركيون وعلمانيوها أخيراً، بفضل قوة حركة اسلامية معتدلة ‏مزجت نزعتها الدينية ـــــ المدنية ـــــ السياسية مع الديموقراطية والليبرالية، لتمنع عبر ذلك ـــــ وما قدمه لها ‏المجتمع التركي من دعم في الانتخابات الأخيرة ـــــ تكرار تجربة انقلاب الجزائر العسكري في عام ‏‏1992 الذي صفقت له باريس وواشنطن والعلمانيون الجزائريون والعرب.‏
‏ ‏‏* كاتب سوري