strong>علاء اللامي*
“وإننا نعدّ من يُحْجِمُ عن عملية قتالية يحصد فيها عدداً من المحتلين مخافة أن يصيب فيها بريئاً واحداً من أبناء هذا الشعب، لمن أرباب الجهاد الميمون، الذي يعقد الله سبحانه بناصيته الخير».. (من الرسالة)
يتميز النقد السياسي عموماً، وخصوصاً ذاك الموجه إلى المقاومة العراقية من أقلام وهيئات عراقية مناهضة للاحتلال بحساسية خاصة، تسببت بمنع التواصل تارة وكانت مادة لسوء الفهم والتأويلات وردود الأفعال الخاطئة تارات. ومع أن تمييز الخبيث من الطيب في هذا النوع من النقد مهمة يسيرة نسبياً، إذ لا يمكن الخلط بين نقد يصدر عن قلم مناهض للاحتلال وداع للمقاومة وإن كان يحاول الحيلولة دون تصنيمها، وبين آخر معاد أو مريب يصدر عن مروجي مشاريع الاحتلال السامة والمثبطين، الداعين إلى نبذ السلاح واستبداله بصفقات سرية، الهدف منها دمج المقاومة، أو بعضها، في مشروع التصالح مع المحتل وأقطاب مشروعه السياسي الطائفي المحليين؛ مع ذلك، فقد دفع العديد من الوطنيين المناهضين للاحتلال ثمناً باهظاً نتيجة جهرهم بالنقد البنّاء والضروري لسلوك وأفكار وشعارات وتحالفات سادت لفترة طويلة وما زالت، وأدّت إلى ما أدت إليه من تشرذم وارتداد واقتتال وتناحر داخلي. وتولّى البعض ممن يلجأون الى الدفاع اللفظي والشعاراتي عن المقاومة، دور الجلادين الذين راحوا يهددون ويخوّنون وينشرون ملفات التسقيط والتشويه في مواقع الانترنيت ضد كل من تجرأ ووجه انتقاداً أو ناقش تصرفاً يراه خاطئا ومضراً بمعسكر مناهضة الاحتلال.
ضمن سياق هذا النوع من النقد الحي والمفيد، يمكن إدراج العديد من الأفكار والمضامين المهمة التي وردت في الرسالة المطولة والمفتوحة التي وجهتها هيئة علماء المسلمين في العراق خلال شهر أيلول/ سبتمبر الجاري إلى فصائل المقاومة العراقية. ونحن وإن كنا نسجل أن هذه المضامين النقدية الجيدة تأخر طرحها عدة سنوات، نعتقد بأهميتها وبفائدتها على طريقة المثل القائل: أنْ تصل متأخراً أفضل من ألا تصل أبداً.
معلوم أن هذه الهيئة من الأطراف الراسخة في مناهضتها للاحتلال، ومن منطلقات حرص أغلب الناطقين باسمها على أن تكون وطنية عامة لا طائفية دينية أو فئوية. ومعلوم أيضاً أن الهيئة دفعت ثمن مواقفها تلك تضحيات جسيمة من أرواح عدد من قادتها ومؤسسيها وجماهيرها، وأصبح لها وزن واعتبار ثقيلان في الشارع العراقي، العربي السني تحديدياً، ولدى عدد من الفصائل الإسلامية في المقاومة العراقية، الناشطة في المناطق الشمالية الغربية ومحيط العاصمة بغداد خصوصاً، وكل أنحاء البلاد عموماً. وقد اقتربت الهيئة في وقتنا الحالي من صورة الحزب السياسي صاحب المشروع المتكامل والعلاقات والأطر.
خاطبت الهيئة فصائل المقاومة بكلام صريح وواضح فأنصفتها، لكنها لم تسكت عن الجوهري والضروري. ويمكننا التركيز على المحاور المهمة التالية التي وردت في الرسالة:
ـــــ أولت الرسالة اهتماماً خاصاً لمخاطر انفراد أحد الفصائل أو مجموعة منها بالتحاور مع المحتل قبل إنجاز مهمة توحيد فصائل المقاومة برنامجياً وعملياً، ورأت ذلك انجراراً إلى كمين يتقن المحتل نصبه.
ـــــ ميزت بين أنواع البرامج التي تتبناها الفصائل الإسلامية، فهناك من يتبنى هدف إقامة حكم «الخلافة الإسلامية العظمى»، وأخرى تريد للعراق حكماً إسلامياً، وثالثة تسعى إلى تأسيس دولة مؤسسات حديثة، يكون الإسلام فيها الدين الرسمي للدولة. ورغم أن الهيئة لم تصرح بتفضيلها لأحد هذه المشاريع، قالت في موضع آخر من الرسالة ما يوحي بخيارها، حيث نقرأ «لا بد أن تضعوا في الحساب حال اختياركم أي مشروع سياسي خصوصيات المنطقة، والوضع الدولي القائم، وتصور ذلك على حقيقته وواقعه، ومراعاته على نحو لا يضر بالدين، هو ـــــ في تقديرنا ـــــ جزء من جهادكم».
ــــ سجلت الرسالة وجود «توتر» حالي بين فصائل المقاومة، وقالت إن ذلك أمر متوقع، وإن على هذه الفصائل أن تسوّي خلافاتها وتتصالح وتعمل «على احتواء أي خلاف بسرعة البرق، وإن اقتضى ذلك أن تتجرعوا شيئاً من المرارة، لأن الهزيمة أمام المحتل بعد كل هذه التضحيات، ستكون بمنزلة السمّ الذي سيصيب منا جميعاً مقتلاً واحداً».
ـــــ سجلت الرسالة ضرورة تنمية نشاطات المقاومة في أجزاء معينة من العراق نفترض أنها الجنوب والفرات الأوسط، وتطويرها. وقدمت صورة لا تخلو من السلبية والاعتبارات الذاتية الخاصة لجماهير تلك المناطق وتجربتها في المقاومة، قافزة دون مبرر على نماذج الكفاح البارزة التي قدمت، والمتمثلة في انتفاضتي النجف بقيادة التيار الصدري والمقاومة الباسلة في اغلب محافظات الجنوب والوسط.
ـــــ وجهت الرسالة لطمة شديدة إلى شعار «الممثل الشرعي والوحيد» الذي تتبناه بعض الفصائل. وكما أسلفنا فقد تعرض هذا الشعار الضار والذي ألحق أفدح الأذى بالعمل المقاوم إلى النقد من عدد من الأقلام والأطراف السياسية الوطنية، ومن أبكرها «التيار الوطني الديموقراطي». لقد كانت هيئة علماء المسلمين صريحة جداً بهذا الخصوص فقالت تخاطب تلك الفصائل «يجب أن تدركوا حقيقة مهمة للغاية وهي أنكم لستم وحدكم من يمثل الشعب العراقي، وأصحاب المشروع الجهادي فيه»، ورأت الرسالة أن «عامة الشعب بكل طوائفه وأعراقه، من الذين لم يتواطأوا مع المحتل، ولا مع عملائه، وصبروا على الظروف الصعبة التي تمر بالبلاد»، شركاء للفصائل في العمل المقاوم الجهادي. كذلك سجلت الرسالة أن «المقاومة وحدها لا تستطيع أن تبني دولة، وهذا لا يقدح في كفاءتها، فهي جزء من كل، والدولة إنما تقوم بالكل... وليس كل من حمل السلاح في وجه العدو قادراً على أن يتسلم شأناً من شؤون الدولة، سياسياً كان أم عسكريا أم مدنياً».
ـــــ تفارق الهيئة، والرسالة، بوضوح المواقع الانعزالية والتكفيرية والطائفية الممزقة لوحدة المجتمع العراقي التي يتخذها بعض الفصائل، وفي مقدمها «تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين»، حيث نقرأ في الرسالة «نوصيكم خيراً بهذا الشعب من شماله إلى جنوبه، وبكل أطيافه وطوائفه، وإنكم أهل لذلك، فهذا الشعب اثبت أنه على رأس الشعوب المتحضرة، وأنه الأكثر وعياً، والأنضج قيماً وأخلاقاً، فقد تسامى على الجراح على نحو مثير للإعجاب، وتجاوز ـــــ حتى اللحظة ـــــ فخاخ تمزيقه طائفياً وعرقياً». نقرأ هذا الكلام السليم والمستنير وغير الطائفي بعد ثلاثة أيام على نشر بيان تنظيم القاعدة الموجه إلى أهالي سامراء يطالبهم فيه بالاستعداد لقتال «الروافض والصليبيين»، أي أنه يساوي بين أغلبية العراقيين من المسلمين الشيعة والمحتلين، وإلى ضرورة مقاطعة هؤلاء «الروافض» وتحريم الاختلاط والتزاوج والبيع والشراء معهم.
صحيح أن رسالة هيئة علماء المسلمين لم تقل شيئاً بخصوص الكوارث التي ألحقها تنظيم القاعدة بالمقاومة العراقية، وصحيح أن أحد زعمائها رأى تنظيم القاعدة في فترة ما جزءاً من المقاومة العراقية، لكنها ـــــ الهيئة ـــــ كما يبدو اختارت أن تميز نفسها عنهم بهذه الطريقة وإن كانت برأينا غير كافية، وتحتاج الى متابعة وترسيخ حتى تطبع الهيئة وكل من ينتمي اليها بروحها.
* صحافي عراقي