• عزمي بشارة


  • إصلاح ديموقراطي!

    عندما يحلّ إصلاح ديموقراطي على شعب متعطش للديموقراطية ترتفع نسب التصويت في أي انتخابات تأتي في سياقه. هذا كلام منطقي نظرياً، وهو حقيقة تاريخية مثبتة أيضاً. وعندما تنخفص نسب التصويت رغم الحديث عن الإصلاح كما جرى في المغرب، يبدو أن الناس لا ترى إصلاحاً فعلاً. ينتشر التشكيك على نطاق واسع بضرورة التصويت إما نتيجة لتعب وإشباع من السياسة في مجتمع قوى اقتصادية وفردية استهلاكية كما في الغرب، أو لأن المصوتين لا يرون قيمة للصوت وصدقية للتصويت.
    في المغرب التي انخفضت فيها ملكية القصر (المخزن) لحركة الأسهم والاقتصاد في البلد ممّا فوق الستين في المائة إلى أقل من خمسين بالمائة أخيراً فقط (إكونومست، 8 ـــــ14 ايلول/ سبتمبر، ص. 43)، وحيث ما زالت الصلاحيات كلها مركزة بيد صاحب السيادة الذي يجمع في شخصه الملك والقائد العام وأمير المؤمنين القادر على حل الحكومة والبرلمان، لا يرى الناس أن الانتخابات تلامس مصادر السلطة الفعلية. وهذه حال الإصلاح في كل الدول العربية حيث يصلح النظام برلماناً دون صلاحيات فعلية تتجاوز ما يفرده له صاحب السيادة الفعلي.
    وحتى في انتخاب برلمان فاقد السيادة لا يعني تقسيم البلد إلى 95 منطقة انتخابية إلا منع أي حزب من الحصول على أكثرية. فلكي يحصل أي حزب على أكثر من مقعد في المنطقة الواحدة لا يكفي أن يحتل المرتبة الأولى فقط بل يجب أن يحوز على ضعف اصوات الحزب الذي يليه. تنافس فعلي بين أحزاب فعلية يكون على سلطات فعلية. وفي الدول العربية حتى الإصلاح المحدود لمؤسسات لا تمارس سلطة حقيقية يتم بطريقة تمنع نمو أحزاب فعلية وتطورها.




    سؤال أميركي

    في سياق النقاش الماروتيني الأخير الذي استخدمه بوش مشهداً إعلامياً لتغطية سياسته، نذكر أنه قبل أربعين عاماً دعا الرئيس ليندون جونسون قائد قواته في فييتنام الجنرال وليام ويستمورلاند ليدلي بشهادة أمام «البيتين»، مجلسي الكونغرس. وقد قام ويستمورلاند بالواجب وأكثر، إذ أكد أن الفيتكونغ وجيش فييتنام الشمالية هما بمثابة مهزومين، وذلك رغم أنها حرب لم تعرف الولايات المتحدة مثلها من ناحية تحرك الجبهات وتنوع العمليات وتبعثرها على طول البلاد وعرضها، على حد تعبيره. وشدد الجنرال على النجاح في بناء حكومة ديموقراطية في فييتنام الجنوبية كما قوّم عالياً «التعاون البنّاء بين قواته وقواتها». وبشّر قائلًا «إننا نربح حرب الاستنزاف القائمة»، وإنّ «كسر العدو نهائياً يحتاج الى سنتينومع بداية عام 1968 شنّت قوات الفيتكونغ معززة بجيش فييتنام النظامي هجوماً واسعاً في مائة موقع بما فيها سايغون والسفارة الاميركية ذاتها. ولم يبقِ على أثرٍ من شهادة ويستمورلاند. وواصلت أميركا تكبد الخسائر الى حين وقف اطلاق النار عام 1973 الذي لم يصمد. والنهاية معروفة.
    فيما بعد اتُّهم الجنرال بتضليل الكونغرس وشهَّرت به الصحافة. لكنه لم يعترف بالفشل بمرور السنين. ونسب إليه ما أصبح عوناً فكرياً وأخلاقياً للمحافظين الجدد للخروج من «عقدة فييتنام» أن الهزيمة لم تكن عسكرية، وأن الأميركي لم يصمد، وأن الدولة ملومة لأنها لم تحترم التزامها تجاه الأصدقاء والحلفاء في فييتنام الجنوبية.
    ولن يسيء القارئ الظن إذا قلنا إننا لا نتوقع لبتريوس المصير نفسه. فبتريوس لاقى مصيره. لقد سبق أن كتب هذا الجنرال ـــــ السياسي مقالًا شبيهاً بشهادة ويستمورلاند في أوج فوضى سفك الدماء في العراق، (واشنطن بوست، 24 أيلول/سبتمبر 2004).
    في ذلك المقال دافع بتريوس عن سياسة بوش مكرراً عبارات باتت كليشيهات مضحكة مثل: «أرى تقدماً ملموساً، القوى الأمنية العراقية يجري بناؤها من الأساس»، «هنالك تقدم في الجهود الرامية لتمكين العراقيين من أن يحملوا جزءاً أكبر من العبء الأمني»، وطبعاً هو يرى الضوء في آخر النفق. والطريف أنه أكد أن «الأرقام ليست كل شيء» مشيراً الى الأعداد الرهيبة من القتلى المدنيين، وعمليات التفجير، والعمليات ضد قوات الاحتلال. اما في تقريره الأخير امام الكونغرس، فغدت الأرقام كل شيء، إذ جرى انتقاء ما يلزم من مقارنات. وتم حسم عدد كبير من القتلى المدنيين في نوع جديد من التمييز بين العنف الجنائي والعنف الطائفي، كذلك اختيرت بعناية الأشهر المناسبة لإجراء مقارنات تظهر تحسناً.
    طبعاً لم يترك موظفا بوش، الدبلوماسي والآمر العسكري، أي انطباع في المستمعين. والمستمعون بدورهم كانوا سيتسامحون لو نجح بوش في مهمته، فقد أيدوا الحرب بداية، وهتفوا لبوش عندما أعلن انتهاء العمليات العسكرية من على حاملة الطائرات.
    إن النقاش في نجاح المهمة في العراق أو فشلها هو نقاش وطني أميركي. ولا يفترض أن معارضي الحرب من الناحية المبدئية يدفعون الى موقفهم من إجابة عن سؤال هل نجح بوش في تحقيق أهدافه أم لا، بل من الإجابة عن سؤال عن شرعية تلك الأهداف. أما المقاومة فلا تسأل هل نجح الاحتلال أم فشل، بل تسعى لإفشاله. وهي التي تؤدي الى نقاش بين من كانوا مؤيدين للحرب وتدفع بجزء منهم إلى معارضتها وحسم المسألة.
    أميركا في مأزق لأنها لا تستطيع الانسحاب مهزومة دون تحقيق اي هدف اللهم إلا الحرب الأهلية وتقسيم العراق في حالة انسحابها الفوري، فهي تفقد بذلك آخر ذرة صدقية لدى حلفائها وتترك المنطقة فريسة لأعدائهم. لكن استمرار احتلالها من ناحية أخرى، لا يمدد الا للنزيف، ولن يصل الى أهدافه المعلنة لأن السكة التي تسافر عليها تتجه نحو تفتيت وتجزئة أشد وأعنف. فأميركا تتباهى حالياً بتسليح العشائر بعدما آل تسليح الطوائف والتسامح مع ميليشيات المهدي وبدر الطائفية هذا المآل. إنها تعالج التجزئة الطائفية بتفتيت عشائري أعمق، وفي هذه الأثناء تحولت عملية «بناء الأمة» التي تبجح بها الاحتلال إلى عملية تدمير الأمة.
    الوجه الآخر للانهيار هو عدم تمكن القوى المعارضة للوجود الأميركي وخاصة قوى المقاومة من تقديم بديل على مستوى ذاتٍ فاعلةٍ سياسياً وقادرةٍ على التفاوض مع الأميركيين على شروط انسحابهم كسلم لإنزالهم عن الشجرة العالية التي تسلّقوها.
    سؤال للتفكير: القوى الأكثر جاهزية للمقاومة ضد الاحتلال الأميركي هي أيضاً الأكثر طائفية وتعصباً مذهبياً، إن كان ذلك في أوساط السنة أو الشيعة العرب العراقيين. لماذا؟ سؤال مهم لمن تقع عليهم (لا على أميركا) مسؤولية بناء عنوان سياسي موحد للمقاومة الوطنية الفعلية في العراق.




    عاشت الفروق الصغيرة

    تختلف حركة الاحتجاج الأميركية على الحرب في العراق عن تلك التي قامت على الحرب في فييتنام حجماً وتأثيراً. نعرف أن قوى المقاومة في فييتنام كوّنت حركة مركزية ذات استراتيجية ورؤية وطنية موحدة في ما يتعلق بمستقبل البلد، وذلك خلافاً للحالة العراقية التي لا تنفكّ تنقسم وتتفتت بين عشائر ومذاهب وطوائف وتحالفات خارجية. ونعرف أن ثمة فرقاً بين ثلاثة آلاف وسبعمائة جندي أميركي قتيل وخمسين ألفاً في فييتنام، ونعرف أنه في حالة فييتنام كان هنالك معسكر دولي كامل ليس معادياً فقط للحرب بل يقف الى جانب فييتنام بالعدة والعتاد والدعاية، ويراها حربه. هذا صحيح، لكن ثمة فرق آخر قلما يُلتفَت إليه.
    لقد ساد في الحرب على فييتنام تجنيد إجباري شمل حتى أبناء الأغنياء والصحافيين ونجوم هوليوود والسياسيين. ونظرة سريعة على سيرة أعضاء الكونغرس تكفي لنرى كم منهم خدم في فييتنام ونشط ضد الحرب بعد عودته، ومنهم أبناء ارستقراطية أميركا. وانتشرت في حينه فضائح من حاولوا تحصيل إعفاء من الخدمة لأبنائهم بالثروة والنفوذ. أما في العراق فيعتمد الجيش على الجنود المحترفين وأبناء الفقراء والأجانب. وحركة السلام في اميركا اليوم هي حركة يسار متضامن مع هؤلاء الضحايا، لا حركة المتضررين من الحرب. وهنالك فرق بين تظاهرة يقودها تحالف فرق يسارية وعصب حقوقية وبين تظاهرات يشارك فيها نجوم هوليوود ومغنّو الروك وأبناء السياسيين.
    عندما تؤدلج الطبقات العليا خوفها على حياتها وحياة أبنائها المتجمعين في تظاهرات، ولو كانت محرجة في رومنسيتها إذ تختلط فيها النقمة على الآباء بالغنى والثروة والدلال والخوف من الحرب، تختلف الصورة والتأثير.
    لو كان التجنيد الإجباري متبعاً في اميركا في ظل هذا المجتمع الاستهلاكي الفردي الأقل تحمّلاً من مجتمع الستينيات لركّزت في العراق كل قوتها العسكرية، أو لخرجت منه بأسرع وقت. إن غياب خطة أميركية للتورط الكامل أو للخروج الكامل ناجم عن فوارق صغيرة مهملة مثل الفرق بين حياة الاغنياء والفقراء.




    أكثرية من أجل التوافق، أم توافق على الأكثرية

    1. يعني التوافق الإجماع لا الأكثرية، وبالتأكيد لا يعني أكثرية بسيطة. من يرد الأخد بالتوافق لكن دون أكثرية نصابية على الأقل، لا يريد في الواقع توافقاً، ولا يرى التوافق شرطاً، والدليل انه لا يسقط «حقه الديموقراطي» بالعودة الى «النصف زائد واحد». بالنسبة له يسري التوافق فقط في حالة الموافقة على موقفه ورأيه ومرشحه. وهو القادر إذا لم يتم الاتفاق على العودة الى ممارسة حقه المذكور أعلاه. من ينتق التوافق وحده دون الثلثين، لا يريد توافقاً بل يريد أن يصوت بأكثرية بسيطة (باللبناني: «النصف زائد واحد»).
    2. الديموقراطية التوافقية ليست ديموقراطية، فهي ترفع شأن الانتماء إلى جماعة جزئية فوق الأمة وفوق المواطنة. لكنها تسمّى مجازاً ديموقراطية. التوافقية الطائفية هي نظام لبناني، وهو ديموقراطي تعدّدي إذا ما قورن بما يسود في المنطقة العربية. الديموقراطية الليبرالية غير توافقية. لكنها ليست حكم الأكثرية عشوائياً بل بموجب مبادئ الديموقراطية، بما فيها احترام حقوق وحريات الفرد والأقلية. لم يتبنّ لبنان ديموقراطية ليبرالية مواطنية علمانية، رغم أن هذا هو الخيار الأفضل بالطبع.
    وبموجب الخيار اللبناني يجب أن يكون كل رئيس من الرؤساء الثلاثة من طائفة معينة، لكن دون حاجة إلى أن يكون مرشحاً عن هذه الطائفة. هذا نظرياً، أما عملياً فيجب أن تتوافر أكثرية على الأقل داخل كل طائفة على أن فلاناً هو مرشحها، وإلا عُدّ مرشحاً مفروضاً (من السوريين مثلًا!). لن تقبل غالبية الشيعة أن يُنتخب رئيس البرلمان بأغلبية سنية ومسيحية، ولن تقبل غالبية السنه أن تختار رئيس الحكومة أغلبية مؤلفة من الشيعة والمسيحيين. ومن محاسن التوافق في حالة الرئاسة أنه يكنس تحت سجادته أسماء الطوائف الصريحة التي تسفر عن وجه الطائفية القبيح. وإذا أصرت الأكثرية البسيطة على انتخاب الرئيس، فيجب أن تشمل هذه الأكثرية على الأقل أكثرية مسيحية «بالنصف زائد واحد» من النواب المسيحيين في البرلمان.
    هذا هو منطق التوزيع والتوافق الطائفي لمن يريده ويتمسك به. الأكثرية تصح داخل الطائفة، والتوافق يصح بين ممثلي الطوائف. هذا هو المنطق الطائفي (البغيض) لمن يصرّ عليه. ومن ينفر منه يجب أن يصر على التوافق الشامل ليستره ويوفر الكلام الصريح فيه على الأقل... أو يختار النظام المواطني الديموقراطي الساري على كل المواطنين بغضّ النظر عن انتمائهم الطائفي.