strong>نسيم ضاهـر *
مضت ثلاث سنوات على إصدار الباحث برنار روجيه دراسة مرجعية ميدانية عن دار المنشورات الجامعية الفرنسية، عنوانها «الجهاد في يومياته»، بعد إقامة امتدت لسنوات ست في لبنان حيث مارس التعليم الأكاديمي والتنقيب. وعلى المسافة الفاصلة عن أحداث نهر البارد، يمكن العودة والركون إلى الاستخلاصات المثبتة في متن وثنايا كتابه الذي أراده معاينة عن كثب لبيئة مخيّم عين الحلوة، وتنبه باكراً إلى ظاهرة السلفية الجهادية، بطبعتها السنية، قيد التموضع والانفلاش في المخيم الشمالي بالذات.
تناول المؤلف موضوع الدراسة بتسليط الضوء على رقعة اجتماعية مصغرة، مدخلاً لتلمس بنية الحركات الجهادية وبيان دوافعها وكيفية اعتناقها الأسلوب العنفي ومصادر جعبتها الثقافية. ووجد أن غاياتها البعيدة خارج المكان، انطلاقاً من انخراطها في عالم مؤسطر يتوسل الجغرافيا المكانية على سبيل توفير الشروط الظرفية، ويصبو الى معتقد جامع قوامه إحياء الأمة واستعادة الأرض والتاريخ، على خطى السلف الصالح، من أعداء الاسلام الموصوفين ثوابت قاطعة، وأهل الفتنة الدائمين على الضلال، وكل من يتبع البدع القومية والديموقراطية والقانون الوضعي. كذلك بيـَّنَ غربة الفكر الأصولي عن مفهوم الأوطان والكيانات، واستواء أصحابه عفوياً في فضاء شمولي أنبت هوية اسلامية جامعة لا يبدلها الزمن الا بمقدار «تخلّي» القوم عن صحيحها وجوهرها وانقيادهم الى فقه السلطان وسراب النظامية على قاعدة التمثيل الشعبي.
ترتكز الجماعات الاحيائية، في مختلف تلاوينها، على وحدة الأمة المفقودة التي تستدعي ادانة الجاهلية المتفشية منذ أفول عهد الصحابة، في شرود نحو الاجتهاد (الفقه) والتأويل والشروح، فيما النص والشرعي كامل الكمال والصلاحية الأبدية، يرسم العبادات والمنهج، وبالتالي يحدد السلوكيات والطريقة المثلى لاتباع يوميات عيش وحياة، صورة عن أصل تقرن الولاء للمعتقد بالفعل حفاظاً على جادة الصواب.
فالضغينة على الأحوال الدهرية في الأساس، يرى المجاهد في مرآتها شذوذاً بائناً عن القاعدة المنزلة يوجب تقويماً منوطاً بمنظومته الأقلية الفاعلة ذات الرسالة الخلاصية مهما اشتدت الصعاب أو جرفت الغالبية الساحقة الى الخنوع والكفاية.
من هنا، يضحي العنف أداة مشروعة وضرورية من منظور التكليف الطبيعي، إيقاظاً للأمة، وذوداً عنها، يقابله الازدراء بالحياة، على معنى العبور والفناء. فليس من تضحية ذاتية أو مقاربة بطولية للشهادة، بل مجرد انصياع لأمر إلهي وتنفيذ لمهمة مسندة تلقائياً بعامل الالتزام، فرض عين على المسلم العادي، ينسحب رفضاً للمعيارية في الجائز والممنوع إزاء الآخر، بما في ذلك الاستباحة وسفك الدم، والاكراه طالما تقاطع الفعل مع الإبقاء على شعلة الإنقاذ الملهمة وأرجع الى أنبل المقاصد ممثلاً بالدفاع عن نقاوة العقيدة وديمومتها.
تفاجئ معاينة الحركات السلفية الجهادية من زاوية التجرّد العلمي والحيادية البحثية، بما تخالف من مسلّمات شائعة وتبسيط نمطي حيال منشئها وأغراضها. ثمة قراءة مغالطة، جلها سياسي آني، تتجاهل جذوة التمرد المجبول باليأس، الكامن وراء التحاق العناصر الشابة بالمنظمات المذكورة، وتحديداً في مخيمات الشقاء، على هامش الدولة والمجتمع في آن، في ما يُشبه الملاذ الآمن والعزلة الكيانية عن مألوف المتعارف عليه ضمن الحيز الواحد. ويقتضي إزالة لصيق الالتباس الحائل دون المعرفة الواقعية لأهدافها ومراميها، اذ إنها غادرت الحقل الفلسطيني المحض الى فسيح الأمة، فكراً وإطاراً ومشتل أنصار وغاية نضالية.
أما الحيثيات فمرجعية تتصل بشمولية الصراع وتاريخانيته الضاربة جذورها قدماً في التاريخ بمواجهة الغرب، وقالب أيديولوجي ديني عابر للحدود، وأيضاً نتيجة قناعة ذاتية لدى الجيل الحالي في فشل ممارسة الآباء وانهيار المشروع الوطني الفلسطيني وتفاعله السلبي مع التسوية المتوجة في اتفاقية أوسلو، وفق لوحة تشاؤمية خلاصتها انسداد الأفق وحتمية التصدِّي للحاضنة الدولية بغية شلّ إرادتها وتقليم أظفارها على كل الجبهات المفتوحة وبؤر التماس معها توطئة لخنق القلعة الصهيونية وقطع الإمداد عنها وإسقاطها.
كشفت مواكبة السلفية الجهادية تنوّع مسارات الأعضاء ومسالكهم السابقة في أرجاء الدنيا، ثم اجتماعهم على الغوص في التجربة الأفغانية، أو البوسنية والشيشانية، ومشاهدات العائدين، جسدياً، وتمثلاً متخيلاً للمقيمين صقله تواتر الأخبار والصور والقرص المدمج، على نحو المماهاة والرمزية. وحيث مثّل مخيم عين الحلوة ملتقى استيطان في خاصرة رخوة، أخذ بدوره صنع مادته وتفريخاته، وتوريد بذوره للزرع في تربة نهر البارد الصالحة، على اعتبار أن غياب فصائل منظمة التحرير، أخصها فتح، عنه يسمح بحرية الحركة، المؤيدة بإبعاد الجيش اللبناني عن محيط المخيم الواقع تحت رقابة الأجهزة السورية. بذلك قُـدِّرَ لنهر البارد في ظن المولجيـن الإفادة من رافد البيئة السنية المواتية، والتفلت من نفوذ حزب الله القائم على المقاومة حصراً في الجنوب، وممارسة تعبئة صافية مقطوعة عن الاحتكاك المباشر مع العدو الإسرائيلي وعمليات المقاومة، تنسكب في قالب جهادي معولم التركيبة البشرية والأهداف.
فقدت القضية الفلسطينية طابع المركزية والمرجعية في عالم الجهادية، واستعمرت عنواناً جانبياً وعباءة في أحسن الأحوال، تستقطب المتيسر من الأنصار للمنازلة الكبرى في المدى الإسلامي العريض، وتسمح بالرسملة على كارثيتها لاجتذاب العطف والمناورة في فلك رافضي التسوية، وتجنب إغضاب الراعي السوري أو الاصطدام معه. على هذا المنوال، نسجت الجهادية شبكة علاقات وحماية، رائدها ترتيب أجندة العمليات تبعاً لسلّم أولويات، عاجله الكفار الصليبيون، ومؤخره سائر الأعداء الداخليون في دار الاسلام. وفي سبيل تحصين التنظيم ودرء المخاطر، عمدت إلى التمويه والمُسايرة اللفظية حيثما دعتها الحاجة، وإلى تقية مدروسة ناتجها المهادنة والوقاية من نار «الأصدقاء» المرحليين لغاية تصليب شوكة المجاهدين واستتباب الأمر لهم.
تختزن المنظومة السلفية الجهادية مشاعر الكره للإسلام السياسي عامة، بقدر تعويلها على جيل الواعظين المشبعين بالنقمة على أحوال المسلمين الحاضرة، من خارج المؤسسة الدينية الرسمية (دار الفتوى)، وبتعاليم أشد المحافظين والمتزمّتين، وفي مقدمهم ابن تيمية وسيد قطب. وعلى تعدد تسميات المنظمات وتناسلها، تحضر القاعدة، بقيادة بن لادن، في ضميرها ومدارها، وتمثل عضداً ومرجع تقليد، هيولى تغني عن اعلان نسبية رحمية تعرّض للملاحقة وتثير الشبهات، لكن تشد بروابط غير منظورة من حافظة «التآمرية» السرية والعمل تحت الأرض. إن ميزان الحركات الجهادية، دون جدال، يميل الى محاربة العدو الأكبر في مهمة عاجلة وكيانية، من موقع الهجوم، واعتبار ما يعوق هذا الفرض من مؤسسات دولتية وثقافية وسياسية قائمة في دار الإسلام وأرض الرباط أو النصرة، أهدافاً مشروعة يجري التعامل معها ـــــ من وجهة الجهاديين ـــــ بالعنف أو بالمراوغة والاستئخار، تبعاً للضرورات الميدانية، على سبيل الدفع والدفاع. لكن الأساس الفكري أي المحدّدات، ثابت لا يقبل التأويل والاجتهاد، يكلف لزوماً بإسقاط المعادلة «الحضارية» على المستوى الكوني، أفقياً جغرافياً في مواجهة المعتدين والمغتصبين، وعمودياً تاريخياً إزاء من خان الأمانة والرسالة من مستغربين ومتخاذلين ومسالمين، ولفيفهم الغارق في الجاهلية والقنوط.
أتمَّ لبنان إخلاء مخيم نهر البارد من المسلّحين، وتكبّدت القوى المسلحة الشرعية خسائر فادحة لقاء القضاء على إرهاب قد تلف تحت راية الاسلام. إلاّ أن أسباب نموّ هذه الظاهرة ما زالت قابلة لاستيلاد أشباه العبسي في غير مخيم وبؤرة، ولم تفقد قوة الدفع نهائياً. العِبرة أن حسم هذا الفصل الأليم بالوسائل العسكرية، لا يُعفي من اليقظة المجتمعية حيال نزعة العنف ومكامنها ومخابئها، الكفيلة بوأد الفتنـة وتعطيل وسائلها ومفاعيلها. بيد أن التحوّط والاحتراز محلياً، مهما بلغ من الذروة والدرجات، لن يؤتي النتيجة الكاملة ما لم ينصرف المجتمع المدني (الأهلي وفق الرؤية المحافظة) إلى تعرية منظومة المتشدّدين الفكرية، والقطع معها على المعنى المعرفي، وتجفيف مصادر تزويدها، بصدق وشفافية، بما يتجاوز الاكتفاء برفض الجزر الأمنية، ويتطلع الى المعابر المنتشرة في شرايين المدينـة، وصولاً الى فضيلة الاعتراف بأزمة الإسلام المعاصر وتداعيات حقبة طويلة من مهادنة «الصحوة» بزيّهـا الماضوي، ومغازلة دعاتها على قاعدة التوظيف المذهبي.
* كاتب لبناني