نزار عثمان *
بعد قضية الرسوم الدانماركية الشهيرة، وما أثارته من ضجة وردود أفعال في العالم على تناول المقدسات الإسلامية برسوم مهينة منذ ما يقرب سنتين، تعود هذه القضية إلى الواجهة انطلاقاً من عالم الكاريكاتير لتأخذ مدى معيناً لها على مسرح الأحداث في العالم، لكن من بلد أوروبي آخر هو السويد. فقد نشرت صحيفة نيركس آليهاندا بنسختها الصادرة يوم الثامن عشر من آب المنصرم، واحدة من ثلاثة رسوم للفنان السويدي لارس فيلكس الحائز شهادة الدكتوراه في الفنون الجميلة، والمحاضر في «نظرية الفن» في جامعة بيرغن للفنون في النروج. تمثل هذه الرسمة وجهاً مفترضاً لنبي الإسلام على جسد كلب يتوسط ساحة. ورغم الرفض الذي واجه الفنان من أكثر من جهة حول نشر هذه الرسومات قبلاً، لم يتوان رئيس تحرير الصحيفة أولف يوهانسن عن الإعلان أنه غير مستعد لتقديم أي اعتذار، وأنه مقتنع بأن نشر هذا الرسم كان «قراراً جيداً».
لحق نشر هذه الرسمة مقال افتتاحي في الجريدة نفسها للارس سترومان قال فيه إن موقف اتحاد الفنانين في تلرود، وكلية يارلبوري في محافظة يوهوسلان، ومتحف الفن الحديث في استوكهولم باستبعاد هذه الرسوم وعدم نشرها: «يُشكّل رقابة ذاتية غير مقبول بها في مجتمع ليبرالي، لأنّ على المجتمع الليبرالي أن يوازي بين تيّارين في آن واحد، وهما الحرص على حق المسلمين لممارسة دينهم ولبناء مساجدهم من جهة، والاستهزاء برموزهم الدينية من جهة أخرى ـــــ كما يُستهزأ برموز الديانات الأخرى. وليس هناك من تعارض بين هذين الهدفين، لا بل إنّهما يكمّلان بعضهما». في هذا السياق نعود بالذاكرة لمقابلة أجرتها «الأخبار» اللبنانية بتاريخ 12 آذار 2007، مع فليمنغ روز رئيس قسم الثقافة في جريدة يولاند بوستن الدانماركية، وصاحب الدعوة بمسابقة الرسم الذائعة الصيت، حيث رأى أن الرسوم «كانت معدة للنشر في صحف دانماركية، وكانت موجهة إلى جمهور دانماركي، لكنها استُخدمت خارج سياقها». ومن ثم برأيه «على المهاجرين إدراك حقيقة أنهم إن أرادوا الانتقال إلى عالمنا فعليهم أن يحترموا قوانيننا ويقبلوا بها. بالنسبة إلي، هذه القواعد هي الديموقراطيات المقدسة المذكورة في دستورنا، منها حرية التعبير وحرية الديانة... إلخ» وبالنتيجة: «لا يحق لهم فرض قوانينهم علينا في بلداننا الديموقراطية».
في الوقت الذي يطلق فيه حزب الشعب السويسري (أكبر الأحزاب في المجتمع الليبرالي السويسري) حملة لجمع مئة ألف توقيع، لبدء استفتاء على قانون يقضي بعقوبة جديدة للجرائم التي تتم من قبل أطفال المهاجرين، وهي باختصار تتمثل بترحيل العائلة بكل من فيها. مع اتخاذ بوستر لهذه الحملة يمثل علم سويسرا تعلوه ثلاث نعاج بيضاء تطرد نعجة سوداء، مع كتابة شعار «لمزيد من الأمن» أسفل البوستر، بدلالة رمزية واضحة بعنصريتها، تصنف النعجة السوداء باعتبارها تعكس الفساد والجريمة، وأن على المواطن الأبيض طرد المهاجرين من ذوي اللون الداكن. يأتي لارس سترومان مدافعاً عن رسمة لارس فيلكس بأسلوب ينحو باتجاه الخفة، ويعكس دوافع عنصرية خفية ضد من هم غير أوروبيين بالأصالة، بحيث إن من الواجب عليهم بمقابل فسح المجال لهم بممارسة أعمالهم العبادية بزعمه، أن يتقبلوا السخرية من مقدساتهم، وكأنه يصرح بطريقة أخرى، إن لم يقبل المسلمون بهذه السخرية من معتقدهم، فمن الواجب على الدولة الديموقراطية الليبرالية أن تحرمهم حق ممارسة شعائرهم الدينية، ذلك أن هذه الديموقراطية لا تقوم ـــــ برأيه ـــــ إلا بتلازم لا انفكاك فيه بين حرية المعتقد والسخرية منه، متناسياً أن حق حرية التعبير له قيوده المحددة التي يدخل في إطارها الخطاب الدافع باتجاه إثارة الكراهية والعنف والتشهير، وخصوصاً أن القانون السويدي على وجه الدقة ينص في إحدى مواده على الحد من حرية التعبير إن كانت تترجم كلغة كراهية تجاه المجموعات الإثنية «Hets mot folkgrupp»، هذا من جهة سترومان.
أما من جهة فليمنغ روز وما ذهب إليه، فبالإضافة إلى صدق بعض ما نوقش سالفاً في ما ذهب إليه سترومان على ما طرحه روز، الأمر الذي لا يوجب التكرار. نأتي إلى اعتباره أن الرسومات كانت موجهة لجمهور دانماركي، ومعدة للنشر في الصحف الدانماركية. وهنا قد يصح طرح الاستفهام عن الخصوصيات الثقافية في ظل العولمة وثورة التقانة، وينسحب باتجاه طرح التساؤل المشروع أيضاً، حول إذا ما بات من الممكن اعتبار أي مادة تنشر في وسائل الإعلام العالمية ـــــ فضلاً عن الدانماركية ـــــ موجهة فقط للجمهور الذي تصدر في وسطه وسيلة الإعلام هذه، مقروءة كانت أو مسموعة أو مرئية مع وجود الإنترنت والفضائيات. ثم إذا كان الأمر كذلك، فكيف يمكن تفسير إعادة نشر الرسوم هذه في غير صحيفة أوروبية؟ وهل يصح وسم ذلك الإصرار بعنوان التمسك بـ«حرية التعبير» فقط؟
لطالما أثارت «حرية التعبير» كمبدأ عاصفة من الآراء حول معاييرها في ما خص المس بمقدسات الشعوب على اختلافها. قد لا يكون من الضرورة بمكان الدخول في عمق محددات هذا المبدأ، أو النظريات التي تبحث فيه، أو القيود التي تفرض عليه بشكل تفصيلي، لكن قد يكفي التذكير بأنه كمبدأ قد كفل بموجب القانون الدولي من خلال العديد من صكوك حقوق الإنسان، وبخاصة المادة 19 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والمادة 10 من الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان. ومن المعلوم بالطبع أن «حرية التعبير» هي من أهم الأسس التي تتبناها الديموقراطيات الغربية الليبرالية الحديثة، والتي بدورها باتت مرتكزاً لتمرير وشرعنة مثل هذه الرسوم وغيرها من حيث المبدأ.
لكن إذا نظرنا إلى «حرية التعبير» من جهة أخرى، أعني بها بالقياس إلى موضوع انتقاد السياسات التي تتبعها الحكومة الإسرائيلية، وصولاً إلى حد المساءلة أو الانتقاد لقضية «الهولوكوست»، فهل يبقى لـ«قدسية» حرية التعبير كل هذا الوزن؟ أم سيتضح أمامنا نوع من ليّ العنق لهذا المبدأ، وثنائية معيارية قوامها الكيل بمكيالين في الغرب؟
في معرض سوق الشواهد على الثنائية غير المبررة التي ينظر من خلالها غربياً، إلى مبدأ حرية التعبير، أشير بداية إلى أن الموضوع لن يتطرق لما هو خارج دائرة فن الكاريكاتير، وبالتالي فإن الشواهد ستقتصر بما هو ذو صلة ليس إلا. وعليه، فمن السهولة بمكان بدءاً عند البحث عبر شبكة النت عن كلمتي «العداء للسامية والكرتون» أن يرى المرء كماً هائلاً من الرسوم لفنانين عرب، صُنِّفَت من جهات عدة بالعداء للسامية، لمجرد كونها تنتقد السياسات الإسرائيلية الممارسة بحق العرب. لكن هل يقتصر واقع الأمر على الفنانين العرب فحسب؟
تعرّض الفنان الإيراني مسعود شجاعي طباطبائي ـــــ مسؤول بيت الكرتون الإيراني ورئيس تحرير جريدة كيهان الكاريكاتير ـــــ لحملة تشهيرية ضخمة وصلت إلى ما هو أكثر من 700 مقال ينتقد المسابقة الكاريكاتيرية حول الهولوكوست التي أعلنت عنها جريدة همشهري الإيرانية، ونظمها وحكّمها طباطبائي. وبنتيجة هذا الأمر، قامت 17 دولة أوروبية بمنع طباطبائي من دخول أراضيها، وأخيراً منذ أقل من أسبوعين، حرمته السفارة الصينية في طهران، نيل تأشيرة «الفيزا» لدخول الصين، بعد توجيه الدعوة إليه للمشاركة في هيئة تحكيم مسابقة الكاريكاتير الدولية في الصين، ولـ«أسباب سياسية»، بحسب السفارة.
يقول الفنان جوزيف سيزابو في موقع «ويتي وورد» على الإنترنت، في واحدة من مقالاته الناجية من التلف ـــــ يضم الموقع عدداً من المقالات تحت عنوان «مقالات في تعريف العداء للسامية»، وجلها تقود إلى صفحات أتلفتها جهة ما: «غيمة من التهديد ارتفعت من على المنبر الذي اعتلاه فوكسمان الذي صاح بصوت متهدج: إن هناك عدداً من رسامي الكاريكاتير الأميركيين يبيحون لأنفسهم نشر رسوم معادية للسامية» في معرض تهكمه على أبراهام فوكسمان المدير الوطني للاتحاد المعادي للتشهير وأحد أهم المدافعين العالميين ضد «العداء للسامية»، يبدي سيزابو استياءً شديداً من الاستخدام المسيء لمسألة العداء للسامية، ويردف التوصيف بأنه في اللقاء السنوي لفناني الكاريكاتير في الولايات المتحدة، المنعقد في الأول من حزيران عام 2006، بحضور السيناتور جون ماك كاين، والسيناتور أورين هاتش، ورئيس المعهد العربي الأميركي في واشنطن جيمس زغبي، إضافة إلى فوكسمان وشخصيات أخرى، قام فوكسمان بتوزيع كتيب يضم أربعين رسماً لفنانين أميركيين، صنفها بالمعادية للسامية. لا يجد سيزابو في الرسوم التي ضمها كتيب فوكسمان عداءً للسامية، إذ ليس المقصود منها الإساءة لأي عرق أو دين مقابل كونها نقداً كاريكاتيرياً لسياسات متبعة في إسرائيل يشابه النقد لسياسة أي دولة أخرى. ولا يخفي سيزابو بنهاية مقالته امتعاضه من توجيه الاتهام لفناني الكاريكاتير بالعداء للسامية، لمجرد كونهم يمارسون عملهم النقدي للسياسات المتبعة من الحكومات، ومنها حكومة إسرائيل، ويرى مثل هذا الأمر تشهيراً.
هذا وقد واجه فنان الكاريكاتير ديف براون وصحيفة الإندبندت البريطانية اتهاماً بالعداء للسامية من اللوبي الإسرائيلي في بريطانيا، حيث سارعوا لإبداء سخطهم، واتهام الفنان والصحيفة، بعد أن قام براون بتاريخ 27 كانون الثاني 2003، برسم رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق أرييل شارون بشكل عملاق يمسك طفلاً فلسطينياً قاضماً رأسه، متسائلاً بتحدٍّ: «أين الخطأ؟ ألم تروا سياسياً يقبل طفلاً؟». وفي خلفية الكاريكاتير تظهر طائرات هليكوبتر ودبابات تطلق الصواريخ والقذائف التي تلحق الدمار بالفلسطينيين مع رسالة تقول: «انتخبوا شارون» وأخرى تقول: «انتخبوا الليكود».
وفي نقاط سريعة نوجه السؤال: أين الدفاع عن حرية التعبير مع الفنان البرازيلي كارلوس لطوف، بعد تعرضه لتهديدات بالقتل من مناصري حزب الليكود الإسرائيلي ومحازبيه، إثر رسومه الانتقادية لآلة القتل الصهيونية في لبنان عام 2006؟ أين هي هذه الحرية مع الفنان البلجيكي بنيامين هاين، عندما تلاحق رسومه المناوئة لإسرائيل على شبكة النت وتتلف؟ وغير ذلك كثير.
عوداً على بدء، وأخذاً بما اعتقده أولف يوهانسون رئيس تحرير صحيفة نيركس اليهاندا، من أنه من الجيد فتح نقاش في حرية التعبير والاعتقاد. هل يستطيع كاتب هذه السطور (بكونه فنان كاريكاتير) أن يتناول الصهاينة، ورموزهم برسم تشهيري من النوع الذي نفذه لارس فيليكس، وأن تجد هذه الرسمة طريقها للنشر في صحيفته؟ وبالتالي هل يضمن للفنان حينها حق التعبير عن الرأي أمام ما قد يوسم به من عداء للسامية؟
* رسام كاريكاتير سوري وعضو لجنة
«دون كيشوت» الدولية للكاريكاتير