يحيى فكري *
أصدرت محكمة الجُنَح المصرية يوم الخميس 13 أيلول/ سبتمبر حكماً بالحبس سنة، وغرامة 20 ألف جنيه على أربعة من رؤساء تحرير الصحف المصرية المستقلة، هم: عادل حمودة رئيس تحرير «الفجر»، وإبراهيم عيسى رئيس تحرير «الدستور»، ووائل الإبراشي رئيس تحرير «صوت الأمة»، وعبد الحليم قنديل رئيس تحرير «الكرامة» السابق، بتهمة نشر أخبار كاذبة وسب وقذف رموز الحزب الوطني الحاكم: حسني مبارك، وجمال مبارك (الوريث)، وأحمد نظيف (رئيس الوزراء)، وزكريا عزمي (رئيس الديوان الجمهوري). وقد استؤنف الحكم، ما أوقف تنفيذه لحين صدور حكم نهائي.
وقبل يوم واحد من صدور الحكم بالحبس، قام المجلس الأعلى للصحافة (الجهة الحكومية المسؤولة عن منح التراخيص للصحف، ومتابعة نشاط الصحافة في مصر) بتوجيه تقرير إلى نقابة الصحافيين يطالبها بالتحقيق مع ثلاث صحف مستقلّة هي: «الدستور»، و«الكرامة»، و«البديل»، بشأن نشرهم لشائعات تتعلّق بصحّة رئيس الجمهوريةوقبل عدة أيام من هذا التاريخ، قامت نيابة أمن الدولة بتحويل إبراهيم عيسى إلى المحاكمة بالتهمة نفسها (نشر «شائعات» تتعلق بتعرض مبارك لأزمة صحية حادة).
تبدو أحداث الأسبوعين الماضيين هذه في أعين الكثيرين، محاولة من النظام المصري لوقف حملات الهجوم الصحافية ضدّه، وإظهار قدرته على البطش بهؤلاء الذين يواصلون التشهير به وفضح ممارساته. والمؤكد أن وجهة النظر تلك فيها قدر كبير من الصحة، إلا أن الأمر في حقيقته يبدو أكثر تعقيداً من ذلك. فقد باتت تلك الصحف، التي صدرت تباعاً خلال الأعوام الثلاثة الأخيرة، مصدراً لإزعاج النظام، لكنها لا تزعجهم فقط بسبب ما تشنّه من هجوم على مبارك وأسرته ورجاله، وخطتهم لتوريث الحكم، بل تزعجهم أكثر لنجاحها في نشر معلومات كان يجري التعتيم عليها في العادة، ما أكسبها ثقة لدى جمهور من القراء يزداد اتساعاً يوماً بعد يوموقد يكون المكسب الإصلاحي الرئيسي ـــــ والوحيد ـــــ الذي انتزعته حركة التغيير في مصر حتى الآن، هو صدور تلك المجموعة من الصحف المستقلة، التي عكست، انطلاقاً من مشارب متعددة وبدرجات متفاوتة من الحدّة، الطموح إلى الإصلاح السياسي والتغيير الديموقراطي في مصر. وبالتأكيد، كان للضغوط الدولية التي مورست على النظام المصري عام 2005 دور في السماح لتلك الصحف بالصدور، لكن بالقطع، كان للضغوط الداخلية الناجمة عن حركة التغيير دورها المحوري أيضاً. المهمّ أنّ استجابة النظام لتلك الضغوط ـــــ أيّاً كان مصدرها ـــــ أصبحت تمثّل الآن، بحدّ ذاتها، أداة للمزيد من الضغوط والقلاقل.
فقد لعبت الصحف المستقلّة، بدرجة أو بأخرى، دوراً في التعبئة للتحرّكات الجماهيريّة التي حدثت في مصر خلال عام 2007 ـــــ حتى دون قصد منها ـــــ عبر نشرها لمتابعات وتقارير وتحقيقات صحافية لكلّ من تلك الاحتجاجات فور حدوثها، وهو أمر جديد على الجمهور المصري الذي اعتاد على رطانة الصحافة الحكومية وأخبارها التي لا تتغيّر. صحيح أن الصحف المستقلّة قدّمت تغطية شاملة لتظاهرات «كفاية» وحركة التضامن مع القضاة خلال عامي 2005 و2006، إلا أن تلك التحركات كانت «تهم ساعتها» وفي المقام الأول، النخب السياسية. أما التغطية الصحافية لأحداث العام الحالي، فتخص الجمهور العادي بالأساس، وهو أمر كان له تأثيره السريع والمباشرأصبح الجمهور العادي يشعر بأن تعبيره عن غضبه بات مسموعاً في نطاق واسع الانتشار نسبياً، وبالتالي لم تعد التعمية على الأمر وتجاهله ممكنة، ما شجعه على مواصلة احتجاجه. أما الأثر الأكثر أهمية، فهو أن التغطية الصحافية لتلك الاحتجاجات كانت تؤدي إلى انتشارها. فالمتضررون في مواقع أخرى صاروا يكتسبون الثقة في قدرتهم على التظاهر والاعتصام بسبب متابعتهم لما تنشره الصحف من احتجاجات أمثالهم، ونجاح هؤلاء في تحقيق مطالبهم. وبالطبع، مثلاً، يعود الانتشار السريع للإضرابات وسط عمال النسيج في مطلع هذا العام إلى أسباب تخص الحال السياسية العامة، والمشاكل المتراكمة وسط هذا القطاع تحديداً. لكن هذا لا ينفي أن التغطية الصحافية النشطة لإضراب عمال غزل المحلة، والنجاح الذي حققوه، أدت إلى تحفيز عمال النسيج في شركات أخرى (شبين الكوم، وكفر الدوار، وغيرها) للإضراب بسبب المطالب نفسها. ودون شك، حفّزت صور وأخبار اعتصام أهالي قرية «البرلس»، للمطالبة بتوفير المياه النقية، أهالي العديد من القرى الأخرى الذين يعانون من نقص المياه، للاعتصام
والتظاهروقد يكون أكثر الأمثلة وضوحاً بشأن هذا الأمر هو قصة طفل قرية «شها» بمحافظة الدقهلية، الذي أُلقي القبض عليه بتهمة سرقة علبة شاي، وقاموا في قسم الشرطة بتعذيبه حتى الموت، وهو من أسرة شديدة الفقر، أبوه متوفى وأمه تعيل عدداً كبيراً من الأطفال. وقد حاولوا في القسم التغطية على الحدث والادّعاء بأنّه مات بسبب مرضه، وقاموا بدفن جثته في الخفاء، إلا أنّ الأم أقامت الدنيا ولم تقعدها حتى اضطرتهم إلى فتح تحقيق جنائي ما زال مستمرّاً حتى الآن. المهمّ هنا، أنّ ذلك ما كان ليحدث من دون الدعم الصحافي الذي حصلت عليه الأم، والمتابعة الجريئة للقصة، وأيضاً الثقة التي امتلكتها من مشاهد الاحتجاجات ضد التعذيب في أماكن عدة. ففي السابق، كانت وقائع مثل هذه لا يسمع عنها أحد ـــــ اللهم إلا المهتمين بحقوق الإنسان ـــــ وتنتهي بسحل الأم الفقيرة التي لا سند لها، والزج بها مع باقي أطفالها في السجن حتى ترضى بالأمر الواقع.
هكذا يمكن فهم الهجمة التي يشنّها نظام مبارك اليوم على الصحف المستقلّة. فالتطاول على مبارك والهجوم عليه سبب كافٍ بالطبع للعصف بأصحابه. لكنّ الأسوأ أن يحدث هذا التطاول عبر صحف تلعب دوراً ـــــ بقصد أو من دونه ـــــ في التعبئة لمعارك جماهيرية، وتقوم ببث روح من الثقة ـــــ بسبب متابعتها الصحافية ـــــ في إمكان التعبير عن الغضب، والنضال من أجل الحقوق والمطالب. فالتطاول هنا يتجاوز حال تعبير النخب السياسية عن سخطها في فراغ لا يعيرها فيه أحد انتباهاً، ويتحوّل إلى مادة يتداولها العامة فوق أرصفة الشوارع التي تشهد احتجاجاتهم... وهذا بالتأكيد مكمن
الخطر.
* صحافي مصري