عصام نعمان *
انتقل جورج بوش من الدفاع إلى الهجوم. أركان إدارته أكثروا من استعمال مفردات التهويل والتهديد بالحرب. كوندوليزا رايس، التي كانت ترشحها كواليس واشنطن لاستقالــة قريبـة بسبب صدامها مع ديك تشيني، تراجعـت عن مقاربتهـا «السلمية» للشأن الإيراني، وسوّت على عجل خلافها من نائب الرئيس الأميركي. صحف أميركا وبريطانيا وفرنسا أخذت في نشر تحقيقات وتحليلات وتقارير تشير إلى أن الحرب على إيران دخلت مرحلة الإعداد المتسارع. باريس انضمت على حين غرّة إلى جوقة المهددين بالحرب. وزير خارجيتها برنار كوشنير حذّر في مقابلة إذاعية من أنه «لا بدّ من توقّع الأسوأ... الذي هو الحرب». شبح الحرب خيّم على المنطقة بانعطافة دراماتيكية. هل الحرب فعلاّ اقتربت من أبوابها؟
لا داعي للذعر. وزير الدفاع الأميركي روبرت غيتس لخّص الموقف بواقعية لافتة. قال: «إن كل الخيارات مطروحة (في التعامل مع إيران) لكن الدبلوماسية ما زالت الخيار المفضّل».
كوشنير الدبلوماسي حذا حذو «زميله» العسكري في البنتاغون. استدرك قائلاً: «نستعد من خلال السعي أولاً إلى وضع خطط هي من اختصاص قادة الأركان. وهذا الأمر لن يكون للغد... إلاّ أنه لا بدّ من التفاوض حتى النهاية».
أكثر من ذلك. ففي موقف لافت، كشف الجنرال ديفيد بترايوس، قائد القوات الأميركية في العراق، لصحيفة «واشنطن بوست»، أن ثمة انخفاضاً ملحوظاً لعدد المقاتلين الأجانب الذين يدخلون العراق من سوريا، مشيراًً إلى أن دمشق تبدي مزيداً من الدعم للمجموعات المناهضة لـ«القاعدة». موقف بترايوس الليّن من سوريا، يتعارض مع موقف سفير أميركا السابق لدى الأمم المتحدة جون بولتون القائل إن الغارة الجوية الإسرائيلية الأخيرة رسالة واضحة «لا إلى سوريا فحسب، بل إلى إيران، بأن جهودها المستمرة لحيازة أسلحة نووية لن تبقى بلا ردّ».
هل انطوت صفحة الحرب؟ كلا بالتأكيد. إنها، كما قال غيتس، أحد الخيارات المطروحة، وقد تكون أبرزها وأخطرها، لكنها ليسـت مشروعاً معجل التنفيذ، على الأقل من الآن لغاية نهاية العام الجاري. لماذا؟ لأن ثمة أولويات أخرى أكثر إلحاحاً بالنسبة إلى أميركا في المنطقة، أبرزها مستقبل الطواقم الحاكمة في كل من فلسطين والعراق ولبنان. من هنا يمكن الاستنتاج أن تسخين الأجواء عن طريق تسخين مفردات التعبير عنها في واشنطن وباريس ولندن، هو حملة مبرمجة للضغط على اللاعبين المحليين بغية حملهم على تنسيق حركتهم مع حركة اللاعب الأكبر الأميركي (والفرنسي)، بغية ترتيب المشهد المحلي على نحوٍ يبقيهم في قيادته أو صدارته.
في فلسطين، كانت واشنطن قد سارعت إلى ترميم وضع محمود عباس، المتصدّع بعد انسلاخ قطاع غزة «الحماسي» عن قيادة سلطته في رام الله، بوعد أطلقته بشأن «تنازلات» محسوسة سوف يقدمها إليه إيهود أولمرت قبل انعقاد مؤتمر السلام في واشنطن خلال تشرين الثاني المقبل. إلا أن المحادثات بين عباس وأولمرت لم تؤدِّ إلى أي شيء محسوس. ومع ذلك، ما زال الرئيس الفلسطيني يأمل بـ«اتفاق إطار» يعالج قضايا الوضع النهائي، القدس والاستيطان واللاجئين، في حين أن أولمرت لا يوافق حتى على «إعلان مبادئ»، ويفضّل عليه «إعلان نيّات». مصر والسعودية تشدان أزر عباس، لدرجة أن الأمير سعود الفيصل لوّح بعدم حضور مؤتمر السلام ما لم تحصل فلسطين (والعرب) من إسرائيل على تنازلات ملموسة. عباس نفسه، سرّب إلى من يهمهم الأمر عزمه على الاستقالة، إذا لم يملأ يده بأشياء محسوسة قبل مؤتمر السلام الموعود أو خلاله. من هنا يمكن القول إن حملة التهويل والتخويف الأميركية بالحرب، إن هي إلاّ وسيلة لإقناع عباس والملك عبد الله بن عبد العزيز وحسني مبارك بأن ثمة تحديات أشد خطورة توجب المواجهة والمعالجة، وأنها تقتضي تقديم الأهم على المهم. هذا يعني، بلغة الواقع، عدم انتظار الكثير من إسرائيل والمراهنة، تالياً، على ما يمكن أن تحرزه أميركا وحلفاؤها من مكاسب نتيجة المواجهة المنتظرة مع إيران. هل ستنطلي هذه المناورة على عباس والملك عبد الله ومبارك؟
في العراق، خرج نوري المالكي أو كاد، من قبضة أميركا. لعله أصبح في قبضة إيران. إنه يتخذ مزيداً من المواقف «الاستقلالية» عن واشنطن. آخرها قيامه بإلغاء ترخيص ممنوح لشركة الأمن الأميركية «بلاك ووتر» التي تحمي السفارات الأجنبية في المنطقة الخضراء في بغداد. السبب؟ اتهامها بأنها كانت وراء مجزرة ساحة النسور التي ذهب ضحيتها أخيراً عشرات العراقيين بين قتيل وجريح.
بتصعيد لغة الحرب المحتملة على إيران، تأمل واشنطن لجم المالكي قبل أن تسبب تصرفاته هزيمة سياسية لها في بلاد الرافدين، تسبق هزيمتها العسكرية. المالكي أدرك حرج أميركا، وتحسّب لمضاعفاته بإعلان اعتزامه زيارة واشنطن «لإزالة الانطباع الخطأ عن حكومته». هل ستنطلي هذه المناورة على بوش المثقل بالضغوط والإحراجات الداخلية والخارجية؟
في لبنان، تتعادل كفتا ميزان القوى بين الموالاة والمعارضة. لا أحد منهما قادر على انتخاب رئيس جديد للجمهورية من صفوفه. كل منهما يدرك هدف الآخر من وراء الصراع على الرئاسة. الموالون، قوى 14 آذار، يريدون استمرار إحكام قبضتهم على السلطة التنفيذية وترسيخها لإدامة استئثارهم بموارد البلاد وبالمصالح والمغانم والأسلاب. أميركا، ومن ورائها إسرائيل، تشدّ أزرهم لعلمها بأن سيطرتهم على السلطة يساعدها على الحدّ من نفوذ سوريا، كما يمكّنها في المستقبل المنظور من توفير الظروف المؤاتية لنشر قوة دولية على طول الحدود بين لبنان وسوريا، بقصد قطع خط الإمداد اللوجستي عن حزب الله. غاية أميركا وإسرائيل محاصرة حزب اللّه وخنقه، إذا لم يتيسّر لهما تجريده من السلاح وإنهاؤه. لهذا السبب صعّدت أميركا، بالتعاون مع فرنسا، حملة التهويل والتخويف بحرب إقليمية قد تستهدف إيران أو سوريا، بقصد حمل الأطراف المحليين اللبنانيين على لجم المتطرفين في صفوفهم، وتكييفهم لقبول تسوية رئاسية مقبولة. واشنطن لم تتخلَ عن غرضها الأساسي، بتمكين مرشح حليف لها من ملء سدة الرئاسة، لضمان موقف متشدد له من سوريا، واستعداد عملي للحدّ من نفوذ حزب الله والتضييق على المقاومة، بغية تجريدها من السلاح في نهاية المطاف. إلاّ أنها تحسّبت أخيراً لإمكان تعذّر انتخاب مرشح فاقع اللون، فمالت، على ما يبدو، إلى خيار التوافق على مرشح يكون مستقلاً عن المعارضة، في سياق انتماء ثقافي وتقليدي ومصلحي إلى الغرب. هل ستنطلي هذه المناورة على قوى المعارضة المتربّصة؟
باختصار، أميركا تعضّ على أصابع الجميع في المنطقة، سياسياً وإعلامياً، وأحياناً ميدانياً، لتتفادى تراجعاً محلياً. الآخرون، ولا سيما إيران وسوريا وحلفاءها، يعضّون أيضاً على أصابعها لمنعها من التقدم سياسياً بعدما تعثّرت عسكرياً.
من سيقول: «آخ» أولاً؟
* وزير لبناني سابق