strong>محمد مصطفى علوش *
بعيداً عن السجالات الدائرة حول ما إذا كانت نتائج الانتخابات النيابية الأخيرة في المغرب جاءت مخيبة لآمال الإسلاميين أم لا، يبقى الاتفاق بين المتابعين لملف الحركات الإسلامية المغربية بشقيها السياسي والاجتماعي على أن التجربة السياسية للحركات الإسلامية المغربية، على حداثتها، شكّلت نقلة نوعية في نضوج الممارسة السياسية. فلقد عزّزت الممارسة السياسية للحركات الإسلامية المغربية منذ عام 1997 تاريخ انخراطها في العمل السياسي وحتى اليوم الأبعاد الآتية:
  • المساهمة في دفع عجلة الديموقراطية في البلد وتعزيز ثقافتها وتحصينها.

  • تعميق خيار الوسطية والاعتدال، وتفويت الفرصة على الذين كانوا يرغبون في إعادة إنتاج النموذج الجزائري أو التونسي.

  • تقديم نموذج سياسي حضاري، نظيف الكف، ملتزم المبادئ الأخلاقية في الممارسة.

  • تعزيز الهوية المغربية المرتبطة بالأصالة الإسلامية

  • وبما أن أكثر الأحزاب الإسلامية المغربية بروزاً وحضوراً من بين الأحزاب الإسلامية الأربعة الناشطة هو حزب «العدالة والتنمية» الذي جاء في المرتبة الثانية خلال الانتخابات النيابية الأخيرة، حاصداً 48 مقعداً، أي ما نسبته 15% تقريباً من عدد المقاعد، فإنه قد يعتبر نموذجاً من المفيد للحركات الإسلامية في مشرقنا العربي الاقتداء به، ولا سيما أن الحزب تخطى عدة عقبات وتجاوز عدة محطات أهّلته لأن يكون حزباً ريادياً نموذجياً، لا على صعيد الحركات والأحزاب الإسلامية فحسب، بل مقارنة بالأحزاب اليسارية والقومية إذا ما قيست ممارساتها السياسية بما تطرحه من شعارات نضالية وتحريرية ورفاهية.
    وتأتي أهمية تجربة «العدالة والتنمية» في الاقتداء في زمن يقع فيه الإسلاميون بين تهمة الإرهاب أو عقلية الإقصاء والجمود المعيق الحائل دون القدرة على التعامل مع المستجدات والتحديات التي يواجهها العالم اليوم.
    فـ«العدالة» الذي استمدّ اسمه الجديد سنة 1998 من الشعار الذي رفعه خلال الحملة الانتخابية سنة 1997: «من أجل نهضة شاملة: أصالة، عدالة، تنمية»، قرر تغيير اسمه السابق «الحركة الشعبية الدستورية الديموقراطية» إلى «العدالة والتنمية» تماشياً مع التغيرات التي طرأت على المغرب بعد أن كان الاسم السابق يعكس المرحلة السياسية التي أطّرت الحياة السياسية عقب الاستقلال، والتي كانت خلالها تطلعات الشعب المغربي، وفي طليعته الأحزاب الوطنية، تصبو للحرية وللمشاركة السياسية وترفض الهيمنة والإقصاء.
    جاءت تسميته الجديدة «حزب العدالة والتنمية»، كاسم ينسجم مع الأهداف والمنطلقات والأولويات الجديدة للحزب الذي رأى أن الإشكالية الأساسية التي تواجه المغرب هي إشكالية حضارية تتجاوز حدود الحسابات السياسية ورسم برامج التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وأن قصور العديد من خطط التنمية عن صياغة مجتمع جديد قوي ومتقدّم مردّه إلى عدم استناد تلك الخطط إلى أسس مذهبية حضارية تستجمع شروط النهضة الشاملة على الصعيد الفكري والإنساني. من هنا، جاءت دعوته لتحقيق العدالة الشاملة بين الأفراد والجماعات والمؤسسات والهيئات والمناطق والجهات، وصولاً إلى مجتمع تتكافأ فيه الفرص أمام جميع المواطنين عن طريق ثقافة التنمية التي تتعدى المفهوم المادي التقليدي إلى مفهوم ذات محتوى إنساني بالمدلول العملي الواقعي الذي ينصرف إلى الإصلاح الذاتي للإنسان حتى يصير طاقة خلّاقة تبني المجتمع. في ظني أن أهم ما يمكن للحركات الإسلامية استخلاصه من الممارسة السياسية لـ«العدالة والتنمية» للاستفادة منها مع مراعاة الخصوصية المغربية، هو ما حققه من نجاحات في الأمور الآتية:
  • الخطوة الأولى التي تم اعتمادها هي الفصل التام بين العمل الدعوي القائم على الشمولية والممارسة السياسية عبر الفصل التام بين «حركة التوحيد والإصلاح» المعنية بالعمل الاجتماعي والدعوي وبين «حزب العدالة والتنمية» المحصور عمله بالعمل السياسي فقط، والذي تخضع خياراته السياسية وخريطة تحالفاته للأخذ والرد، بعيداً عن الطوباوية والمطلقية في الممارسة. فحزب العدالة كما يقول أمينه العام سعد الدين العثماني: «ليس حزباً دينيّاً، بل هو حزب سياسي وطني مؤسَّس على أساس المواطنة والانتماء الوطني، يفتح أبوابَه لكل مواطن مغربي يؤمن بمشروعه المجتمعي في إطار القانون الجاري العمل به، ويعمل بآليات وأدوات العمل السياسي، لكنه يعتز بكونه ينطلق في برامجه من المرجعية الإسلامية التي هي مرجعية المجتمع والدولة». ثم إن العمل «السياسي عمل نسبي والقرار السياسي قرار يستند إلى تقدير المصالح، ويتخذ القرار في ضوء مجموعة من المعطيات ووفق تأثيراته ومآلاته على المدى القصير والمتوسط والبعيد. ولا يمكن دخول ساحة العمل السياسي دون الدخول في منطق التسويات».

  • خوض الحزب الانتخابات ببرنامج انتخابي مكتوب في حوالى تسعين صفحة، يستعرض فيه المشاكل ويقدم الحلول المقترحة بناءً على إحصائيات علمية دقيقة، دون استعمال للعبارات الإنشائية المزخرفة التي درجت عليها الأحزاب العربية على اختلافها. وفي مقاربة المشكلة يقول العثماني: «مشكلتنا الأساسية تتمثل في أن الانفتاح الاقتصادي يحتاج إلى إصلاح إداري وقضائي ونظام تعليم جيد، ومن ثم فنحن نحتاج إلى بنية تحتية وإلى أشخاص مؤهلين إذا أردنا جذب السياحة المربحة، وحتى الآن لم يتمكن المغرب من تحقيق كل ذلك».

  • النأي عن الشعارات القدسية الغارقة في العمومية مثل «الإسلام هو الحل»، و«تطبيق الشريعة» دون تقديم آليات واضحة لتنفيذها، والتوجه نحو شعارات أكثر واقعية مثل شعاره الاخير «معاً نبني مغرب العدالة» الذي يؤكد فيه على انتمائه القطري دون أن يستبعد أي منافس آخر أو يتهمه، كما حصل مع «جبهة الإنقاذ الإسلامية» في الجزائر والتي اختصرت نفسها بـ«فليس» ورفعت شعارها الانتخابي في أول وآخر مرة تخوض فيها الانتخابات قبل أن ينقلب عليها الجيش، كان شعارها «صوت لفليس... صوت ضد أبليس»، وهذه حال معظم الحركات الإسلامية التي تمارس الإقصاء والمطلقية والاستعلاء على من عداها وخالفها من الأحزاب السياسية.

  • الابتعاد التام عن أي توتر بينها وبين البلاط الملكي، عبر تأكيدها المستمر أنها جزء من المملكة المغربية التي يحكمها الملك (أمير المؤمنين)، والتركيز على ما يمكن إصلاحه، وعن هذا المضمون يكشف الحزب بقوله: «المغرب أضاع ربع قرن من الزمن في الصراعات على السلطة بين الملك والمعارضة، ولم يهتمّ لا بالتنمية ولا بنقل المعرفة أو مقاومة الأمّية، ولم ننجز شيئاً. نحن معارضة إصلاحية داخل المغرب، ولن نعيد تلك التجربة، ويجب أن تكون معارضتنا إيجابية تدفع الأمور إلى الأمام، ولا نريد تعقيد الأمور أو إعاقة التنمية»، الأمر الذي لاقى استحساناً من الملك حيث امتدح الحزب بتاريخ 20/8/2007 قائلاً: «بلادنا في أمسّ الحاجة، لبعث صحوة دينية متنوّرة، ونهضة فكرية عصرية».

  • التعامل بحكمة وواقعية مع قلق الدول الأوروبية من صعود الإسلام السياسي في المغرب، الأمر الذي دفع الحزب للإحجام عن الترشح للانتخابات البلدية عام 2003، علماً بأنه كان قد حقق نجاحاً منقطع النظير في الانتخابات النيابية قبلها بعام، وتوجه عوضاً عن ذلك نحو المؤسسات الأوروربية، شارحاً لها برامجه وأهدافه.

  • التنوع في قائمة مرشحيه التي خاض بها الانتخابات الأخيرة والتي حوت على مستوى متنوع في الخلفية العلمية والعملية والتخصصات المختلفة، من اقتصادية وسياسية وشرعية وعلمية ومن رجال ونساء ومناطق متعددة، وفيها «نزعة تكنوقراطية» مع الحفاظ على أكبر قدر من نظافة اليد والشفافية وحماية الثروة العامة.

  • تأكيده على الالتزام بالاتفاقات الدولية التي أبرمها المغرب مع المؤسسات الدولية، وإن كانت مجحفة، مؤمناً بعلاقات متوازنة مع الشرق والغرب، مرجعاً الإجحاف إلى المفاوض المغربي، لا إلى التآمر الدولي. وفي هذا يقول العثماني: «المشكلة تتعلق بالمفاوض المغربي وقدرته وبراعته ومستوى أدائه، وعلينا أن نعدّ بلادنا لكي تصمد في عالم مُعولم، تسوده المنافسة على كل المستويات، ومن الطبيعي أن تشترط المؤسسات الدولية المانحة شروطاً، لكن المغرب أيضاً بإمكانه أن يقبل تلك الشروط أو لا يقبلها، بحسب مصلحته».

  • إيمانه بأن الإصلاح هو عملية متدرجة وطويلة المدى وتحتاج إلى نفس طويل، لأن من يرفض التدرج في الإصلاح فإنه يشترط شروطاً تعجيزية. ولقد أثبتت التجربة لكثير من القوى السياسية المغربية التي قاطعت الانتخابات لعقود عدة تحت هذا المسمى أن تقديرها كان خاطئاً. حيث فهمت أن عدم مشاركتها تركها مهمشة طوال العقود الماضية.

  • * باحث متخصّص في الشؤون الإسلاميّة