دياب أبو جهجه *
لا شكّ في أن إعلان السيد حسن نصر الله في مقابلته مع تلفزيون الجزيرة خلال الأيام الأولى للعدوان الإسرائيلي على لبنان في شهري تموز وآب من العام الماضي بأن هذه المعركة هي معركة الأمة وبأن أي نتيجة سوف تتمخض عنها هزيمة كانت أم انتصاراً هي للأمة وليست للبنان وحده، كان تعبيراً عن رفضه للمنطلق الانعزالي اللبناني في مقاربة الصراع مع العدو الإسرائيلي وفي التأسيس له معرفياً من زاوية قطرية ضيقة. ثم ما لبث السيد نصر الله أن كرر مطالعته الأوسع لأسس الصراع في خطابه الأخير في 14 آب من هذا العام والذي قدم خلاله قراءة قومية عربية كلاسيكية للتاريخ العربي الحديث والصراع مع الاستعمار وأهداف الاستيطان الصهيوني والاحتلال الأميركي من تكريس للتجزئة والتخلف في الوطن العربي. إن هذا الطرح يتعرض يومياً لهجمات فكرية تلفيقية تتهمه بالخشبية والشعاراتية ولا تقدم تفسيراً تاريخياً مقنعاً ليكون بديلاً عنه سوى الانغماس في المشروع الشرق أوسطي الأميركي ـــ الإسرائيلي. وفوق ذلك، يتهم هذا الطرح بأنّه مهزوم منذ 1967، فإذا بقائد النصر العربي الأوضح على إسرائيل يعيد تكريسه منطلقاً معرفياً للصراع في خطاب أعلن فيه أيضاً عن امتلاك القدرة على تحويل مسار أي معركة قادمة لمصلحة الأمّة. فإذا بالخطاب القومي العربي الذي خاله الجميع، ومن بينهم كثير من القوميين، تراثاً لمرحلة نضالية غابرة لن تتكرر على الأقل تحت الشعار نفسه، يفرض نفسه من جديد كإطار فكري معرفي لتحرك أهم تشكيلات المقاومة العربية اليوم وطليعتها.
نعم، لقد تهافتت التنظيمات القومية العربية منذ موت جمال عبد الناصر وفقدت الأنظمة القومية أو المدّعية للقومية صدقيتها. وطبّل وزمّر الكثيرون من مدّعي التقدّمية والحداثة لهذا الانهيار، طارحين تفكيك ما اعتبروه أسطورة الوجود القومي العربي ورميها في مزبلة التاريخ، ومستعيضين عن العروبة الجامعة بنزعة محلية قطرية تفصّل الوطن على مقاس الدولة، وبالتالي على مقاس الطبقات والشرائح المهيمنة فيها. إلا أن انحسار المد القومي السياسي والتنظيمي لم يترافق مع انحسار القومية العربية كواقع موضوعي مرتبط بالوجود الفعلي للعروبة كهوية وكموروث ثقافي لغوي ونفسي من الصعب القضاء عليه بمجرد هزيمة حركة سياسية طرحته ركيزة ومنطلقاً.
مع بزوغ عصر العولمة الجديدة، وبينما تهادت الرأسمالية النيوليبرالية الجديدة في أروقة القرية الكونية الضيقة، معلنة نهاية الأيديولوجيا ونهاية التاريخ، ومع انفجار الثورة المعلوماتية وثورة الاتصالات الفضائية، فرض واقع اللغة والثقافة نفسه على السوق الإعلامية العربية، مكوّناً فضاء ثقافياً عربياً موحداً ومتداخلاً. فمن ظاهرة الجزيرة التي هي الضيف الدائم في كل دار عربية، إلى راديو وتلفزيون العرب، مروراً بالفضائيات المحلية التي تنافس على السوق العربية مثل المؤسسة اللبنانية للإرسال ذات الخلفية الفكرية الانعزالية اللبنانية التي باتت اليوم من المروّجين عملياً للوحدة الثقافية العربية عبر برمجتها العربية الجامعة. وبغضّ النظر عن أي نقد فني وثقافي بحت من حيث مستوى الثقافة المنتجة، فإنّ العرب في عصر العولمة الإعلامية يشاهدون البرامج ذاتها على المحطات نفسها ويشكلون فضاءً ثقافياً واحداً أكثر من أي وقت مضى.
أنتج هذا الترابط العضوي واقعاً لا بدّ من التعامل معه بشكل إيجابي لأي طرف يريد النجاح في أي مشروع في الوطن العربي. من هنا انتصرت القومية العربية موضوعاً وفكرة، وأضحت من المسلّمات بالنسبة للسواد الأعظم من العرب. وبينما سيطرت الأحزاب الإسلامية على الساحة السياسية، مالئة الفراغ الذي تركته التيارات القومية، تطعّمت هذه الأحزاب بالطروحات العروبية، وبتنا نرى أن استراتيجيتها الإعلامية تركز على الجانب القومي لصراعها مع أعداء الأمة أكثر من الجانب الديني البحت. ومن يتابع الأناشيد التعبوية التي ينتجها حزب الله في هذا المجال يدرك عمَّا نتكلّم هنا. وفي خطاب حماس، لا تذكر الأمة الإسلامية إلا بعد ذكر الأمة العربية في ترتيب خطابي مدروس وواعٍ.
إلا أن الهجمة المضادة على العروبة تشهد في لبنان زخماً غير مسبوق. وقد تعزّز الخطاب الانعزالي اللبناني بشكل كبير منذ كرنفال الأرز، وفرض على القوى القومية والإسلامية في لبنان خطاباً مهادناً ملفّقاً يحاول أن يجد جذوراً لبنانية بحتة لمعركة هي بطبيعتها عربية شاملة مع المشروع الأميركي ـــــ الصهيوني في المنطقة. وتسلّل الفكر الانعزالي اللبناني إلى شرائح كانت في الماضي حاضنة للفكر العروبي، وباتت فكرة نهائية الكيان اللبناني مسلّمة لا يستطيع أن يكفر بها أي كان تحت طائلة اتهامه بالخيانة العظمى. ويلتقي الخطاب الانعزالي اللبناني مع خطابات مماثلة في معظم الأقطار العربية تنظر لقوميات بديلة للقومية العربية ولمفهوم جديد للأمة يدمجها بالدولة القطرية ويحدها بحدودها في أحسن الأحوال، أو يفتّتها إلى كيانات طائفية مفدرلة ومتناحرة في أسوئها. وترفد هذه الخطابات مجتمعة سيل المشروع الأميركي الصهيوني الجارف في المنطقة.
إن الشرخ الأساسي والمحوري الذي يمتدّ كالأخدود الأعظم على طول الخريطة السياسية العربية هو ذلك الذي يفصل ما بين القوى الانعزالية المتشبثة بوطنية اصطناعية مبنية على الدولة القطرية العربية، وقوى قومية عربية أو إسلامية تعتبر أن الدولة القطرية بحد ذاتها سبب رئيسي من أسباب التخلف والضعف والهزيمة العربية، وأن تلك الدولة القطرية ومنظومتها السياسية الاقتصادية الاجتماعية هي بحد ذاتها منظومة استعمارية تشتّت طاقات الأمة وتخدم أعداءها. كما تعتبر أن الهزائم المتعددة والفشل في التنمية المستدامة لا يمكن إرجاعه إلى الفكر القومي لأنه لم تسنح له الفرصة حتى اليوم للقيام بتجربته الوحدوية الشاملة، إنما ينبع الفشل حكماً من الواقع الحالي والماضي، وهو واقع التجزئة والانقسام. لم تفشل الدولة القومية العربية ولا حتى التكامل العربي لسبب بسيط جداً، وهو أنهما لم تتم تجربتهما فعلياً قط. أما الدولة القطرية كمشروع وكواقع فهي أخذت فرصتها لعقود طويلة وفشلت على طول الخط. فلا هي أنتجت تنمية مستدامة، ولا هي أنتجت ديموقراطية سليمة، ولا هي أنتجت تحريراً وسيادة حقيقيين في مواجهة الغزاة.
إن هذا الشرخ ذو أصول معرفية ابستيمولوجية، وهو غير قابل للحل. ولنكن واضحين هنا: إن معركتنا الحالية مع إسرائيل ومن خلفها المشروع الأميركي في المنطقة لا مجال للدفاع عنها أيديولوجياً ومعرفياً من منطلق محلي وقطري. المنطق القومي اللبناني مثله مثل القومية المصرية أو أي قومية قطرية يرفض رفضاً باتاً مفهوم الأمّة خارج إطار الدولة، ولا يمكن أن يؤدي إلا إلى عزل المسار القطري لحل الصراع مع إسرائيل عن البعد القومي العربي الأوسع، وإنتاج اتفاقات انفرادية على شاكلة كامب دايفيد. فبينما ينظر القوميون العرب والإسلاميون إلى الصراع مع إسرائيل على أنه صراع وجود بين مشروعين حضاريين نقيضين، أحدهما عربي ـــــ إسلامي و الآخر صهيوني ـــــ استعماري تدور رحاه في وعاء جيوسياسي مترابط حضارياً وجغرافياً يعرف بالأمة (عربية كانت أم إسلامية أم كلاهما)، ينظر الانعزاليون القطريون إلى القضية على أساس أنها قضية نزاع حدودي بين دول تتساوى في حقها بالوجود وفي «نهائية» كيانها كأمم قائمة بذاتها. وبالتالي، فإنّ التسوية مع الصهيونية ممكنة بالنسبة لدعاة هذا المنطق، لا بل وكذلك التحالف ضمنياً مع إسرائيل لضرب القوى القومية والإسلامية «المغامرة» و«الرافضة» للكيانات التي ركّبتها سايكس بيكو في المنطقة، ومنها الكيان الصهيوني.
بناءً على ذلك، يرتكب القوميون العرب والإسلاميّون في لبنان وكلّ قطر عربي خطأً قاتلاً إذا ما اعتقدوا بأنّ تبنّيهم لجزء من الخطاب الانعزالي القطري سيعطيهم مساحة للمناورة أكبر من تلك التي تناورهم فيها الدولة القطرية وقواها حفاظاً على وجودها، وفي إطار توازنات القوى على الأرض واستعداداً للانقضاض عليهم عندما تسنح الفرصة. لا بد من التذكير المستمر بطبيعة الصراع والتأكيد الصريح والواضح على انتماء لبنان لأمّة وبأنه ليس أمّة قائمة بذاتها. فإمّا الإذعان للمنطق القطري والتخلّي عن وحدة المعركة وطبيعتها الوجودية، أو فرض المنطق المقاوم العروبي على الدولة القطرية وجعلها قدر الإمكان حلقة صمود وتصدٍّ للمشروع الصهيوني الاستعماري، شاء الانعزاليون ذلك أم أبوا.
* كاتب لبناني