ناهض حتّر *
بصورة تلقائية، ردّ مربّو الماشية العشائريّون على قرار الحكومة الأردنية برفع الدعم عن الأعلاف، بسلسلة اعتصامات، أقواها الذي قطع الشارع الرئيسي المؤدي إلى مطار الملكة علياء الدولي. وقد أذعن المسؤولون على الفور، وتوصلوا إلى تسوية عاجلة مع المعتصمين. لكنها، بالطبع، تسوية مؤقتة تنتهي في الربيع المقبل، مثلها مثل تجميد زيادة أسعار المحروقات حتى مطلع 2008.

وليس هذا حدثاً فريداً في أردن 2007، فالبرنامج الليبرالي الجديد الذي وصل إلى مراحله قبل الأخيرة في خطط الخصخصة الشاملة وتحرير الموازنة العامة من الدعم الاجتماعي لحساب دعم الاستثمارات الأجنبية ووكلائها المحليين، أصبح ضاغطاً بشدّة على القرار الحكومي. وهكذا بدأت تتوالى محاولات تجريد الفئات الاجتماعية من مكتسباتها السابقة، لكن الجديد يكمن في اتجاه هذه الفئات العفوي إلى التضامن والاحتجاج والاعتصام. وعند هذه النقطة، سوف يتدخل الملك عبد الله الثاني، مستخدماً سلطاته للاستجابة ـــــ ودائماً بصورة مؤقتة أو جزئية ـــــ للمحتجين.
الاعتصامات الاجتماعية هي الخبر المحلي اليومي في الأردن: عمال الشركات المنجمية المخصخصة، عمال المياومة المطالبون بحقوقهم الوظيفية أمام القصر الملكي، الطلاب الجامعيون المطالبون بخفض الرسوم والأقساط، مربو الماشية، موظفو الجامعة الأردنية للحصول على مقاعد جامعية لأبنائهم، أهالي بلدة «مليح»، جنوبي عمان، للاحتجاج على ارتفاع الأسعار في الأسبوع الأول من رمضان... الخ
اعتصامات هادئة، لكن حاشدة وملحة في كل مكان، وسط مناخ من الشكاوى والتذمر الشعبي من الارتفاع الجنوني في أسعار السلع والخدمات. ويجري، على العموم، التعامل مع تلك الاحتجاجات والشكاوى باللين والاستجابة وتأجيل الملفات. بل إن الملك ورئيس الوزراء والمسؤولين، شاركوا المواطنين الغضب من الغلاء الفاحش في مطلع الشهر الفضيل. ولكن إلى متى؟
لقد سارت البلاد، منذ تولى الملك عبد الله الثاني عام 1999، خطوات واسعة في التحديث الاقتصادي الليبرالي الذي ضغط بقوة على مستويات المعيشة والحياة، وأدى إلى إفقار وتهميش الفئات الاجتماعية التقليدية من الطبقة الوسطى في المدن وأبناء العشائر في الريف والبادية. ومنذ عام 2003، تزايدت الأعباء على هذه الفئات، بسبب انقطاع المعونة النفطية العراقية، وتدفق مئات الآلاف من المهاجرين العراقيين، الذين ساهم فقراؤهم في إرهاق الخدمات العامة وميزانيات الدعم الاجتماعي، وساهم أغنياؤهم مفرطو الثراء في زيادة أسعار العقارات والسلع والخدمات. وبالمقابل، عرف الأردن نمواً اقتصادياً متصاعداً خلال الفترة نفسها، أفاد منه «مستثمرون» أجانب وخليجيون ولبنانيون ـــــ مجموعة الحريري بشكل رئيسي ـــــ و«طبقة جديدة» محلية، في مجالات العقار والاتصالات والخدمات المالية.
في بلد ما يزال يحتفظ بثقافة مساواتية راسخة كالأردن، ويرفض عقله الجمعي القبول بالتراتبية الطبقية، أو إلغاء دور الدولة الاقتصادي الاجتماعي، ويستند إلى تقاليد في الاحتجاج الاجتماعي، فإن حالة السكون التي عاشها المجتمع الأردني خلال السنوات الأولى من تطبيق برامج الليبرالية الجديدة، تدعو إلى التعجب، وخصوصاً أن الإحصاءات الرسمية، تشير إلى أن متوسط نسبة العجز في ميزانيات الأسر الأردنية يبلغ حوالى اثنين وعشرين بالمئة. لكن التعجب يزول حين نعلم أن حوالى 75 بالمئة من هذا العجز، تمت تغطيته من خلال بيع الأصول العقارية.
وهذا يعني أن الأسر الأردنية ما تزال متشبثة بمستوى معيشتها السابق لمرحلة الليبرالية الجديدة. وهي ما تزال تصر على تلبية الحد المقبول من متطلباتها من الغذاء والدواء والملابس والتدفئة وتعليم الأبناء، على الرغم من الميل المتزايد لانخفاض دخولها بصورة مطلقة ونسبية ـــــ أي انخفاض القيمة الشرائية لتلك الدخول ـــــ وربما يكون هذا هو السبب الرئيسي لقدرة المجتمع الأردني على استيعاب التحولات الاقتصادية ـــــ الاجتماعية الليبرالية التي تعصف بالأغلبية الشعبية منذ أواخر التسعينات.
غير أن هذه المعادلة لها حدود زمانية ومكانية واجتماعية. فالاتجاه العام يسير نحو تناقص الدخول وزيادة التضخم وارتفاع أسعار السلع والخدمات، وحتى الخصخصة الشاملة، عما قريب، للصحة والتعليم، في حين أن سعر المئة دولار لبرميل النفط أصبح على الأبواب. وبالمقابل، فإن الممتلكات العقارية للأسر الأردنية في المناطق ذات الأسعار الجيدة، تتناقص بسرعة. وربما نكون قد وصلنا بالفعل إلى نهاية هذا البرنامج الافتراضي الذي أسميه «الأرض مقابل الغذاء» على اسم برنامج الأمم المتحدة للعراق المحاصَر: «النفط مقابل الغذاء».
إن حدود المناورة الاجتماعية بدأت تتقلص بالنسبة للأسر الأردنية التي لا تستطيع أن تناور خارج المجال العقاري. وبالمقابل، فإن الأسر التي تناور من خلال اغتراب أبنائها في الخليج ـــــ وهي بعامة ذات أصل فلسطيني ـــــ ستحافظ على الحد الأدنى من القدرة على المناورة الاجتماعية، لكن مع اتجاه للانحدار ناجم عن غلاء المعيشة المتعاظم في الدول الخليجية التي انتقلت إلى الخصخصة واقتصاد السوق هي أيضاً، وأصبحت إيجارات المساكن وأقساط التعليم والخدمات وفاتورة الغذاء فيها، تأكل معظم دخول المغتربين.
على أنه يجب علينا أن نتذكر أن نسبة العجز المذكورة أعلاه بين دخول الأسر الأردنية ونفقاتها، هي نسبة تشير إلى متوسط إحصائي: أي أن ذلك العجز قد يصل لدى فئات من الأسر، إلى أكثر من اثنين وعشرين بالمئة، أو أقلّ بالنسبة لفئات أخرى، في سلّم تدرجي يشير إذا ما ربطناه بسلّم القدرة على المناورة الاجتماعية، إلى أن الطبقة الوسطى تخضع حالياً، لعملية قضم منهجية لعددها الكمي، وقدراتها الاقتصادية، ووزنها النوعي، بمعنى أن المزيد من الأسر المعتبرة من الفئات الوسطى، انحدرت فعلاً أو أنها في طريقها نحو الانحدار بصورة متسارعة.
وربما يفسر ذلك الكثير من مظاهر الفوضى الاجتماعية والسلوكية والتوتر والنرفزة وتراجع الآداب العامة، وتحدي قوانين السير وتراجع المشاركة في النشاطات الثقافية والسياسية الرسمية الموالية والمعارضة، وتعمق الانقسامات والعودة المتسارعة إلى أشكال العصبيات المختلفة الخ... وقد لاحظ أحد الباحثين أن انهيار الطبقة الوسطى في المحافظات هو السياق الرئيسي لنشوء ظاهرة «السلفية الجهادية» فيها. بالمقابل، يشهد الأردن عودة إلى الأفكار اليسارية في مناخات تبدو ملتبسة بصعود نزعة وطنية محلية قوية.
غير أننا ما زلنا نتحدث عن فئات تملك، أو كانت تملك إلى وقت قريب، القدرة على المناورة الاجتماعية. وهي فئات محدودة نسبياً، بينما انهارت فئات من الفقراء إلى مرحلة الفقر المدقع، وأخرى إلى مرحلة الجوع ـــــ بالمعنى الحرفي، لا المجازي ـــــ ففي الأردن، تم إحصاء 22 منطقة جوع تحتاج إلى الإنقاذ المباشر.
في هذه المناطق، يتناول أفراد العائلات وجبات فقيرة جداً حسب نظام الدور، في محاولة لإبقاء الجميع على قيد الحياة بالحد الأدنى المتوفر. ويؤدي هذا الوضع المزري إلى الإضرار بصحة الفتيات اللواتي يحتجن خلال فترة الحيض، إلى غذاء جيد يعوض ما يفقدنه من دماء. وتكون النتيجة حالات من الشحوب والإعياء وأحياناً الإغماء، تلاحظها المدرّسات في مناطق الفقر. ويهدد الجوع، في النهاية، خصوبة الفتيات والجمال الطبيعي للمرأة الأردنية، الموصوف في أشعار مصطفى وهبي التل.
لا يوجد، بعد، أثر سياسي مباشر للأزمة الاجتماعية ـــــ الاقتصادية ـــــ الثقافية في الأردن. ويعود ذلك بشكل رئيسي، إلى التدخل الملكي المثابر. ففي ظل نظام سياسي يمنح للملك دوراً قيادياً وسلطات واسعة لاتخاذ القرار، يحول الانتصار الملكي للفئات الاجتماعية المتضررة دون تسييس الاحتجاجات الاجتماعية، لكن هذه الصيغة من استيعاب الغضب الشعبي تظل مؤقتة وهشة، طالما لم يجر وضع حد للبرنامج الليبرالي الجديد برمته، وتطوير أدوات وآليات للتدخل الحكومي في السوق، وإعادة توزيع الثروة من خلال الضريبة التصاعدية على الدخل واستهلاك الطاقة، والعودة الى أولوية الدعم الاجتماعي، والحماية الجمركية للمنتجات والاستثمارات المحلية.
سُحب الثورة الاجتماعية تتجمع في سماء الأردن، لكن الأردنيين الذين يتحسبون من مشروع «الوطن البديل» الإسرائيلي ما يزال يحدوهم أمل غامض برغبة الملك وقدرته على إنجاز تلك الثورة. وهو، من جهته، ما يزال يعزز هذا الأمل. غير أن الوقت ينفد أمام الخيار السلمي للتحول نحو الديموقراطية الاجتماعية. ففي العام المقبل، سوف يكون الأردن في مواجهة القرار الصعب حول هويته الاجتماعية والوطنية: 1ـ تطبيق الحزمة الأخيرة من القرارات الليبرالية الجديدة المؤجلة، ومواجهة النتائج، أو إنجاز انقلاب ملكي على الليبراليين الجدد. 2ـ السير حتى نهاية المطاف مع المشروع الأميركي ـــــ الإسرائيلي (ومؤداه شطب الأردن من الخريطة السياسية)، أو إعادة بناء الجبهة الداخلية لمواجهة الضغوط وتلافي الانجرار إلى كونفدرالية مع الاحتلال الإسرائيلي للضفة.
حتى الآن، أعطى الملك إشارات للخيار الاجتماعي، ومواقف قاطعة ضد الكونفدرالية، إلا أن تلك الإشارات والمواقف لم يجر بعد، ترجمتها إلى سياسات، بل ربما يكون ذلك صعباً.
* كاتب وصحافي أردني