فنسان الغريّب *
يربط نوام تشومسكي، المفكّر الأميركي المعروف، بين وضع الديموقراطية داخل الولايات المتحدة، وسياسات الرئيس جورج بوش الداخلية والخارجية على حدّ سواء. ويصبّ انتقاده على الكثير من المؤشّرات على وضع الديموقراطية المتراجع داخل الولايات المتحدة، وخاصة لناحية اتّخاذ إدارة بوش الابن قرارات تتوافق ومصالح الطبقة الحاكمة اليوم في أميركا، مع تعارض صارخ وعلى حساب مصالح الشعب الأميركي والفئات الشعبيّة المهمّشة، داخل وخارج الولايات المتحدة. ويطرح تشومسكي في هذا الإطار «العلاج الديموقراطي» كأداة وحيدة للخروج من الأزمة المتنامية التي سبّبتها سياسات المحافظين الجدد (وخاصة في الشرق الأوسط)، مشيراً إلى أنّه لا يزال بالإمكان الخروج من هذا الوضع المتأزّم، وتفادي اندلاع حرب مع إيران، حرب سوف تكون نتائجها كارثية بنظره، مع إمكان التسبّب باندلاع حرب عالمية ثالثة.
يرى تشومسكي أن إعلان بوش الابن عن رغبته في «تصعيد» العمل العسكري في العراق، برغم المعارضة الشديدة لتلك الخطوة من الأميركيين أنفسهم، فضلاً عن العراقيين، لم يكن مفاجئاً. وقد ترافقت تلك الخطوة مع شنّ المسؤولين الأميركيين ـــــ في كل من أميركا والعراق ـــــ حملة دعائية ضدّ ما سمّوه «التدخّل الإيراني في العراق»، والذي أسهم في نظرهم، في إعاقة تحقيق «النصر الأميركي» هناك، وهو بالطبع، هدف «نبيل» بنظرهم. وقد أخذ حديث هؤلاء ينحو باتجاه الدعوة الصريحة لتوجيه ضربات عسكرية إلى الحرس الثوري الإيراني، وحتى إلى القيادة داخل إيران.
إن هذه الحملة الدعائية تعدّ، بنظر تشومسكي، تعبيراً نموذجياً عن حملات الدعاية في أنظمة الحزب الواحد، حيث يجب أن يطاع خطّ الحزب المعلن. وفي المجتمعات حيث فقدت الدولة قدرتها على فرض سلطتها بالقوة، فإن النقاش يسمح به ضمن الأطر المسموح بها، ما يعطي انطباعاً عن وجود انفتاح وحريّة تعبير عن الرأي، الأمر الذي يساعد على الاقتناع بخطّ الحزب الحاكم (الذي يصبح بطبيعة الحال فوق المساءلة).
إن الجدل الدائر اليوم بشأن «التدخّل الإيراني» في العراق ينطلق من مسلّمة أميركية تقول إن الولايات المتحدة الأميركية تمتلك العالم بأكمله. لم يدخل الأميركيون في جدل كهذا في ثمانينيات القرن الماضي، مع التدخّل الأميركي في أفغانستان، حين كان هذا البلد محتلاً من السوفيات (وحيث كان الثوّار الأفغان والعرب يتلقّون الدعم اللوجستي والمادي الصريح والمعلن من الولايات المتحدة في حربهم على الروس). كذلك فإن الصحافة النازية لم تناقش موضوع تدخّل الحلفاء في فرنسا في ظلّ حكومة فيشي.
إنّ أي ضربة توجّهها الولايات المتحدة لإيران، ستكون نتائجها كارثيّة. هذا ما يتوقّعه تشومسكي. فاستناداً إلى دراسة بعنوان «الأثر العراقي»، أعدّها أخيراً كل من بيتر بيرغن وبول كروكشانك، وهما باحثان متخصّصان في شؤون «الإرهاب»، فإنّ غزو العراق قد أدّى إلى زيادة في العمليات الإرهابية حول العالم بنسبة سبعة أضعاف. أما «الأثر الإيراني» لتلك الضربة العسكرية، فمن المتوقّع أن يكون أقسى بكثير وذا تأثير بعيد المدى.
يطرح تشومسكي السؤال التالي: ما هي خطط المجموعة الأميركية المتطرّفة الحاكمة اليوم في الولايات المتحدة، والتي تمسك بقوّة بتلابيب السلطة هناك؟ لا يمكننا أن نجيب. هكذا يجيب تشومسكي، وخاصة أن هذه الخطط تبقى محاطة بالسريّة بما تقتضيه «مصلحة الأمن القومي الأميركي». إن ما تعنيه تلك العبارة الأخيرة، بحسب تشومسكي، هي مصلحة أمن إدارة بوش الابن ضدّ الأعداء أو الخصوم في الداخل، وهم الشعب الأميركي الذي تدّعي تلك الإدراة العمل باسمه ولمصلحته.
وحتى لو افترضنا أن خطط تلك المجموعة الحاكمة لا تلحظ توجيه ضربة عسكرية لإيران، فإن تجميع الأسطول الحربي الأميركي في منطقة الخليج العربي والمحيط الهندي، ودعم الحركات الانفصالية الإيرانية، ومحاربة الإرهاب من خلال العمليات السريّة التي تشنّها قوات أميركية خاصة داخل إيران، إن كل تلك الاستفزازات الأميركية سوف تؤدّي، بطبيعة الحال وتلقائياً، إلى الاحتكاك المباشر، ما سوف يسبّب اندلاع الحرب. إن قرارات الكونغرس الأميركي لن تكوّن، برأي تشومسكي، حاجزاً أمام احتمال اندلاع تلك الحرب. فبحجّة الدفاع عن «الأمن القومي الأميركي»، سوف ترسل حاملات الطائرات الأميركية مجدّداً إلى منطقة الخليج العربي. وإن افتعال أي حادث أمني هناك سوف يعطي المبرّر اللازم لضرب إيران. إن هذا الأسلوب في شنّ الحروب انطلاقاً من البحث عن التبريرات اللازمة لها، هو أسلوب تقليدي اعتمده أسوأ الطغاة عبر التاريخ، والذين كانوا دوماً يبحثون عن التبرير اللازم، للشروع في شنّ حروبهم التوسّعية. يذكر في هذا الإطار دعوة هتلر للدفاع عن «ألمانيا البريئة» ضدّ «إرهاب البولنديين المريع» عام 1939، والذين رفضوا، برأي هتلر، عروضه السخيّة لإحلال السلام.
من المؤكّد، بحسب تشومسكي، أنه لا يوجد عاقل في العالم يريد أو يرغب في حصول إيران (أو أية دولة أخرى) على السلاح النووي. إن حلّ الأزمة الإيرانية يوجب، برأيه، السماح لإيران بتطوير برنامجها النووي السلمي، مع ما يتوافق وحقوقها التي تكفلها لها معاهدة منع الانتشار النووي. هل إن هذا المخرج ممكن؟ إنه ممكن بشرط واحد: وجود مجتمعات تتمتّع بالديموقراطية في كل من الولايات المتحدة وإيران، ووجوب امتلاك الرأي العام في كلا البلدين، تأثيراً فعالاً في إطار رسم السياسات العامّة. إن آلية الحلّ تلك تلقى دعماً كبيراً من الشعبين الأميركي والإيراني على حدّ سواء، حيث نجدهما متّفقين بشأن المسائل النووية المطروحة. إن التوافق الأميركي ـــــ الإيراني هذا (التوافق الشعبي طبعاً لا الرسمي)، يتضمّن إزالة الأسلحة النووية من العالم أجمع (82% من الأميركيين يؤيّدون هذا الطرح). وإن لم يكن بالمقدور العمل على تحقيق هذا الهدف السامي بسبب رفض النخبة الأميركية الحاكمة له، فعلى الأقل يجب العمل على جعل منطقة الشرق الأوسط خالية تماماً من السلاح النووي (حيث يجب أن تلتزم إسرائيل والدول الإسلامية جميعها هذا الطرح (71% من الأميركيين مؤيدين له). إن 75% من الأميركيين، بحسب استطلاعات الرأي، يفضّلون بناء علاقات أفضل مع إيران بدل توجيه تهديدات باستخدام القوة تجاهها. باختصار، يرى تشومسكي أنه إذا كان للرأي العام تأثير فعّال في رسم السياسات العامة للدولة في كل من الولايات المتحدة وإيران، فإن الحلّ يكون ممكناً (ويكون بالإمكان التوصّل إلى حلول في ما يتعلّق بمشكلة التسلّح النووي حول العالم).
تشجيع الديموقراطية في الداخل الأميركي
إن هذه الحلول التي يقترحها تشومسكي تسهم بنظره في تفادي انفجار الأزمة الراهنة (التي قد توصل إلى اندلاع حرب عالمية ثالثة كما سبق وأشرنا). إن هذا الخطر الفظيع الكامن، يمكن تجنّبه من خلال الاقتراح التالي: دفع الديموقراطية قدماً إلى الأمام، وهذه المرّة في الداخل الأميركي حيث الحاجة كبرى إليها. إن تحقيق هذا الأمر داخل الولايات المتحدة ممكن، وإن يكن تحقيقه أصعب داخل إيران (مقترحاً دعم «الإصلاحيين الشجعان» هناك، والذين يسعون لتحقيق الديموقراطية في هذا البلد). أما أفضل وسيلة لتحقيق الديموقراطية في إيران فهي تكمن، برأي تشومسكي، في التغيير الكلّي للسياسات الأميركية المتّبعة تجاه هذا البلد، بهدف جعل تلك السياسات أكثر تعبيراً وانعكاساً للرأي العام الأميركي. وهذا يتضمّن الامتناع عن توجيه التهديدات إلى إيران (التي يرى فيها القادة الإيرانيون المتشدّدون هديّة مجانية لهم)، وهي تهديدات مرفوضة بشدة أيضاً من قبل دعاة الديموقراطية داخل إيران.
إن تفعيل الديموقراطية داخل الولايات المتحدة سوف يكون له نتائج إيجابية كبرى ومهمّة جداً. إن الالتزام مثلاً بسحب القوات الأميركية من العراق، وفق جدول زمني تلتزمه الإدارة الأميركية، بما يتوافق مع طموحات معظم العراقيين وغالبية الأميركيين، هذا الانسحاب سوف يساعد على قلب أولويات الموازنة الأميركية، حيث إن الإنفاق على المجهود العسكري في كل من أفغانستان والعراق، والذي يستنزف الخزينة الأميركية، هذا الإنفاق سوف ينخفض بقوّّة جرّاء هذا الانسحاب. بالمقابل، فإن الإنفاق الثابت (أو حتى الآخذ بالانخفاض) في قطاعات الصحّة، التعليم، التدريب على العمل، دعم مصادر الطاقة المتجدّدة، تمويل مهمّات الأمم المتحدة لإحلال السلام حول العالم، إن الإنفاق في هذه القطاعات جميعها، يجب أن يرتفع بقوّة. كما أن الإعفاءات الضريبيّة للأشخاص ذوي المدخول المرتفع، يجب أن يعاد النظر فيها كليّاً، بحسب تشومسكي.
وإذا كان للرأي العام أي تأثير فعّال على الإدارة الأميركية، فإنه يجب على الولايات المتحدة التقيّد بضوابط الأمم المتحدة لناحية الامتناع عن استخدام القوّة، وهو أمر يتعارض مع مصالح الحزبين الحاكمين الأساسيين في الولايات المتحدة (أي الحزب الجمهوري والحزب الديموقراطي)، والمتوافقين على أن لأميركا الحقّ في اللجوء إلى القوّة للردّ على التهديدات المحتملة (الحقيقية أو المتخيّلة)، بما في ذلك التهديدات في ما يتعلّق بإمكان الوصول إلى الأسواق والموارد الأوليّة حول العالم. وعلى الولايات المتحدة أيضاً، بحسب تشومسكي، أن تتخلّى عن «حقّ الفيتو» داخل مجلس الأمن الدولي، والقبول بالتالي برأي الأكثريّة الشعبيّة، حتى ولو كان هذا الرأي يتعارض وتوجّهات الفريق الحاكم. وبالتالي يجب السماح للأمم المتحدة بأن تقوم بـ«ضبط» عمليات بيع الأسلحة، وعلى الولايات المتحدة الالتزام بخفض نسبة مبيعاتها للأسلحة بشكل كبير، ما سيسهم بقوّة في التخفيف من حدّة المواجهات العسكرية وانتشار العنف في أماكن متعدّدة من العالم. كما يدعو تشومسكي إلى التعامل مع ظاهرة الإرهاب من خلال الخطوات الدبلوماسية والاقتصادية، بما يتوافق مع رأي معظم الاختصاصيين في هذا المجال، وبما يتعارض مع السياسات المتّبعة حالياً من قبل إدارة بوش الابن.
كذلك ينبغي على واشنطن، برأي تشومسكي، الانضمام إلى التوافق الدولي لناحية العمل على حلّ النزاع الإسرائيلي ـــــ الفلسطيني، وإقامة الدولة الفلسطينية، حيث نجد الولايات المتحدة (بالتعاون مع إسرائيل) لا تزال تمنع قيام تلك الدولة، منذ حوالى ثلاثين سنة. كما يجب على واشنطن منح مساعدات متساوية لكل من الإسرائيليين والفلسطينيين، ومنع تلك المساعدات على أي طرف لا يلتزم أو يخلّ بالتوافق الدولي.
إن الدفع باتجاه مزيد من الديموقراطية في الداخل الأميركي سوف يشكّل، برأي تشومسكي، خطوة مفيدة لمساعدة الولايات المتحدة على أن تصبح «قوّة فاعلة وبنّاءة» داخل إطار النظام الدولي، بدل أن تكون موضع ريبة واشمئزاز من قبل باقي شعوب العالم. وإضافة إلى كون الديموقراطية قيمة إنسانية في حدّ ذاتها، فإن تفعيل العمل الديموقراطي داخل الولايات المتحدة سوف يسهم، بفعالية، في حلّ المشكلات الراهنة المطروحة على الساحة الدوليّة (وكذلك داخل الولايات المتحدة)، أو على الأقل سوف يسمح بالتعامل معها بشكل أفضل، وهي مشكلات إن لم تحلّ سلميّاً، فان تفاقمها سوف يهدّد بفناء حياة الأجناس الحيّة على الأرض.
* كاتب لبناني