ورد كاسوحة *
ليست الاحتفالية التي أقامها الحزب الشيوعي اللبناني منذ أيّام أمام صيدلية بسترس في بيروت، بعاديّة على الإطلاق، إذ من غير الجائز أو المعقول إغفال حدث تأسيسي ومركزي في تاريخ المشروع الوطني اللبناني الذي تمثّل بإطلاق كل من محسن إبراهيم والشهيد جورج حاوي البيان الأول لـ«جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية»، في السادس عشر من أيلول من عام 1982.
وتكمن المفارقة هنا، أن فعل الإغفال والتعتيم المتعمّد على ذكرى اليوبيل الفضّي لهذه اللحظة التأسيسيّة، إنّما يأتي من تيّارات وأحزاب كانت في ما مضى، في موقع «التلاقي والتقاطع الموضوعيّيَن» مع أصحاب المشروع المقاوم، وذلك في ما يتعلّق بقضايا جوهرية تتّصل بموقع لبنان ودوره في الصراع العربي ـــــ الإسرائيلي، وما يقتضيه هذا الدور من عمل حثيث ودؤوب على تحصين مواقع الممانعة في وجه النفوذ الأميركي في المنطقة. وتبلور هذا الدور في محاولة اجتراح صيغة تعدّدية لجبهة وطنية مقاومة، لا يقف طابعها التعدّدي حائلاً أمام التقاء أطرافها على هدف واحد ووحيد، هو الحؤول دون نفاذ مشروع الهيمنة الأميركية المصحوبة بتوسّعية إسرائيلية معلنة إلى العمق الوطني اللبناني، وبالتالي «أسرلة» هذا العمق، وإسقاط لبنان في قبضة النفوذ الأميركي ـــــ الإسرائيلي المشترك كما كان يخطّط لذلك، الثنائي مناحيم بيغن وأرييل شارون.
والحال أنّ مياهاً كثيرة جرت منذ ذلك التاريخ، بدءاً من اغتيال بشير الجميل وسقوط مشروع «أسرلة» لبنان، مروراً بانفراط عقد «جبهة المقاومة الوطنية» وصيرورتها مقاومات شتّى، كلّ بحسب موقعه الجديد وتحالفاته الإقليمية المتبدّلة، ووصولاً إلى اتفاق الطائف الذي «أفتى» راعيه السوري بتلزيم مشروع المقاومة ومناهضة إسرائيل إلى حزب الله والمقاومة الإسلامية، في خطوة اعتُبرت في ذلك الوقت بمثابة تهميش متعمّد ومقصود للأحزاب والقوى العلمانية التي أسهمت إسهاماً بشكل رئيسي في إطلاق فكرة المقاومة.
وكان الحزب الشيوعي اللبناني على رأس القوى العلمانية التي نالت القسط الأوفر من نقمة سلطة الوصاية، الأمر الذي انعكس على بنية الحزب، وهو ما تشهد عليه محاولات القمع والإقصاء والتهميش، ووأد الأدوار التي تعرّض لها الحزب طوال فترة الهيمنة المشتركة الأميركية ـــــ السورية، سواء في ما يتعلّق بالدور المقاوم على الجبهة الجنوبيّة مع إسرائيل، أو بالدور السياسي المفترض أن يلعبه الحزب في الحكومة والبرلمان.
ولم يغيّر في واقع الأمر شيئاً، خروج سوريا من لبنان وتصفية نفوذها فيه، ما دام الفاعل الأساسي الذي أناط بالسوريّين مهمة رعاية تطبيق اتفاق الطائف لم يتغيّر، بل الذي تغيّر فقط هو نمط إدارة سلطة الوصاية الجديدة التي حصرها الأميركيون هذه المرّة ببعض «المقاومين التائبين» من أصحاب نظرية «التلاقي الموضوعي».
ولا فرق هنا، إذا كان هذا «التلاقي» مع مناهضي المشروع الأميركي في «جبهة المقاومة الوطنية» سابقاً، أو مع أصحاب هذا المشروع نفسه؛ فالبراغماتية الرثّة التي اتخذ منها هؤلاء نهجاً، و«الواقعية السياسية» المبتذلة التي يسيرون على هديها، تقتضيان منهم قدراً من «الموضوعية» و«الدقّة» في حساب موازين القوى المتغيرة، أين منهما تلك «المرافعات الأيديولوجية البائدة» عن جبهات المقاومة ومناهضة المشروع الأميركي ـــــ الإسرائيلي ودعم حزب الله في حربه مع إسرائيل؟
بالعودة إلى موضوع انفراط عقد الجبهة، وتحوّلها إلى مجموعة مقاومات متفرّقة ومتحاربة، يمكن المرء الزعم أن هذا الانفراط، يدين بفضل أساسي إلى الطرف الإقليمي المفترض به أن يكون حاضناً لهذه المقاومة وحليفاً موضوعياً لها في مواجهة التهديد الإسرائيلي، ما دام هذا التهديد قد طاله أكثر من مرة وفي أكثر من واقعة. ولعلّ أشدّ تلك الحوادث مأساوية ودموية، تلك التي أجهز فيها الإسرائيليون أثناء زحفهم إلى بيروت عام 1982، على لواء كامل من المدرعات السورية وبعض من سلاح الجو السوري، يناهز ما يقارب من تسعين طائرة مقاتلة.
والرعاية التي قدّمها النظام السوري لعمل جبهة المقاومة، لم تكن من النمط الذي يوفّر تغطية مفتوحة من دون حساب، وبالتالي كانت «رعاية» مشروطة ومقيّدة بحسابات دقيقة، تتّصل أساساً بموقع النظام البعثي من المعادلة اللبنانية والإقليمية، وبقدرته على تثمير عمل المقاومة في لبنان، وتجييره لمصلحته وحسابه
الخاص.
لهذه الأسباب، كان من الصعب على النظام في دمشق الاستمرار في دعم أحزاب وتيارات ذات نهج راديكالي مفرط وصاحبة مصلحة وطموح، ليس فقط في مناهضة المشروع الأميركي ـــــ الإسرائيلي، بل أيضاً في تغيير المعادلة الطائفية التي أتاحت لهذا المشروع، فرصة النفاذ إلى الداخل اللبناني، وتخريب ما يمكن تخريبه.
وتجدر الإشارة إلى أنّ هذا ما دفع بالنظام السوري، إلى اتخاذ خطوات «انقلابية» على جاري عادته، في تحالفاته البراغماتية مع أطراف الصراع اللبناني، وتمّ بموجبها كفّ يد الحزب الشيوعي عن الاستمرار في المقاومة، والاستعاضة عن الحزب، وعن سواه من القوى اليسارية ذات النزوع التغييري المفرط، بأطراف أخرى أقلّ تطلّباً وأكثر اعتباراً للمعادلات الطائفية السائدة التي كان يحرص النظام السوري وسواه من قوى الوصاية الشرقية والغربية على أخذها في الحسبان وعدم المسّ بها، لئلّا تطيح نفوذهم وسلطتهم التي غذّوها على تناقضات المعادلة الطائفية المبتذلة.
ولعلّ من قبيل الصدفة البحتة، أن يترافق هذا الانقلاب السوري المعلن على «الحلفاء» في جبهة المقاومة الوطنية مع ولادة مشروع حزب الله، بتأثير ملحوظ من النفوذ الإيراني المستجدّ حينها.
وفي هذا الإطار العام، يمكن إدراج سياسة التلاقي والتقاطع بين المصلحة السورية والحركة الإسلامية الوليدة، في ما يشبه تواطؤاً معلناً على الأهداف والغايات الأساسية من هذا الحلف الجديد، فلا النظام السوري كان حينها في وارد المسّ بالمعادلة الطائفية «التسوويّة» التي يحرص عليها حزب الله، ويسمّيها «ديموقراطية توافقية»، ولا حزب الله من جهته كان في وارد القيام بأعمال تقوّض النفوذ السوري وتهدّد مكتسباته في لبنان.
صحيح أن توتّراً ملحوظاً قد ساد في أفق العلاقة بين الطرفين إبّان النزاع الشيعي ـــــ الشيعي بين حركة «أمل» وحزب الله، حين وقف السوريّون إلى جانب الحركة، ودعموا موقفها المناهض للأخ الشيعي اللّدود، لكن هذا التوتّر ما لبث أن تبدّد بمجرّد ذهاب الأطراف اللبنانية المحتربة مجتمعة إلى مؤتمر الطائف، حيث أقرّ الاتفاق «التاريخي» الذي أطلق يد حزب الله في مواجهة إسرائيل
منفرداً.
وحتّى لا تأتي المقاربة النقدية للطور الإسلامي من أطوار حركة المقاومة اللبنانية، على نحو اختزالي قد ينتقص من قيمة التجربة نظراً لغناها ومنحاها الإشكالي وتشعّباتها المحلّية والإقليميّة، يجدر بنا تأجيلها إلى مبحث آخر، يكون كفيلاً بإيفائها حقّها من النقد والتحليل والمساءلة.
يبقى أخيراً القول إنّ أي مقاربة موضوعية ونقدية لتجربة «جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية»، لن تستقيم من دون تسليط الضوء على المراجعات والمرافعات التي قدّمها مطلقا البيان الأوّل للجبهة، أي محسن إبراهيم والراحل جورج حاوي، والتي صوّبا من خلالها جملة الأخطاء التي اعترت عملهما الحزبي والسياسي أثناء فترة الحرب الأهلية، فهذان الرجلان اللذان يكادان يكونان الوحيدين من بين أفرقاء الحرب خرقا الممنوعات التي تحوم حول الكلام على تجربة الحرب، وقدّما سلسلة من المواقف النقدية والجريئة في ما يتعلّق بتجربتهما السابقة في الحزب الشيوعي وفي منظمة العمل الشيوعي، أو حتّى في تجربتهما المشتركة في جبهة المقاومة.
إلّا أنه على ما يبدو، فالمواقف النقدية والمستقلّة بحق الطبقة السياسية المهترئة التي تحكم لبنان منذ الاستقلال، وتقوده من حرب إلى أخرى، لها أثمانها وأكلافها الباهظة، وهذا ما لم يفهمه الشهيد جورج حاوي، أو ربّما ما لم يكن مستعدّاً لتفهمه.
* كاتب سوري